لا يمضي يوم إلا ونسمع، أو نقرأ عن جدل في صحافتنا العربية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن أن ما يجري في العالم اليوم هو نتاجٌ لما تريده أميركا، وأن أميركا تدير العالم كما يحلو لها، كأنها قضاء وقدر، وأنصار هذه المقاربة لا يريدون أن يصدقوا أن العالم أمام تغيرات لم تحدث منذ مئة عام، كما أخبر الرئيس الصيني شي جين بينغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين على أبواب الكرملين، والذي وافقه تماماً على ذلك، مشيراً إلى الدور القادم لموسكو وبكين، وتحالفهما في صناعة نظام دولي جديد، قد لا يولد غداً، لكن المسار التاريخي الموضوعي كما قال لافروف ذات مرة يقود حتماً إلى مشهد جديد في العلاقات الدولية، ولمن يريد أن يعرف أكثر عن الأسباب الموضوعية لمثل هذا التحول سأعيده لقراءة مقال مهم جداً نشرته مجلة «فورين أفيرز» في عدد هذا الشهر آذار 2023 بعنوان: «ما الذي أخطأ فيه المحافظون الجدد؟»، والأهم أن كاتب المقال هو ماكس بوت الذي كان أحد منظّري التيار المحافظ الأميركي، وهو عضو في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي «CFR» ومسؤول عن برنامج خاص بالأمن القومي والدفاع، كما أنه من أبوين يهوديين روسيين، وهاجر للولايات المتحدة عندما كان طفلاً مع أسرته بحثاً عن الحرية على حد زعمه، وعلى الرغم من أنه كان صغيراً، ولم يكن يعرف معنى الحرية! وهو أيضاً مؤرخ، وكاتب، ومحلل في السياسة الخارجية، وكتب في كبريات الصحف الأميركية المعروفة، وسمي عام 2018 واحداً من أعظم المهاجرين الأميركيين، وأحد أكثر خمسين شخصية يهودية مؤثرة حسب صحيفة «فوروورد» على عادة الأميركيين بصناعة النجوم ومنح الألقاب.
أهمية المقال تكمن في أنه يشكل مراجعة شاملة لمقاربة المحافظين الجدد الذين سيطروا على مراكز القرار في الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ جورج بوش الابن، وحتى تاريخه على ما يبدو، كما يعطي خلاصات مهمة من الضروري أن يطلع عليها أولئك الذين ما زالوا يعتقدون ويحللون وفق مدرسة كلاسيكية ترتبط بالحرب الباردة أو بمرحلة الأحادية القطبية التي انتهت إلى غير رجعة، وسأحاول في مقالي تقديم أهم الخلاصات التي أرى أنه من الضروري والمفيد الاطلاع عليها، ومنها:
1- يُميز ماكس بوت بين أصحاب الاتجاه المحافظ التقليدي ومن يسمون المحافظين الجدد، ويرى أن مصطلح المحافظين الجدد، جاء للإشارة إلى سلالة معينة من النزعة المحافظة التي وضعت حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية في طليعة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ويقول إنها عقلية مختلفة تماماً عن منهج السياسة الواقعية للجمهوريين التي تبناها الرئيس آيزنهاور، وريتشارد نيكسون، وهنري كيسنجر، وحسب زعمه فإن المحافظين التقليديين مثل دونالد رامسفيلد أرادوا تعليم طالبان وصدام حسين درساً ثم مغادرة كل بلد في أسرع وقت ممكن، لكن المحافظين الجدد الذين انتصرت وجهة نظرهم في إدارة بوش الابن رأوا أن الولايات المتحدة لا تستطيع ببساطة إسقاط الأنظمة القديمة، وترك الفوضى خلفها، وكان على الأميركيين العمل مع حلفاء محليين لبناء نماذج ديمقراطية يمكن أن تُلهم التغيير الليبرالي في الشرق الأوسط! ليقر في مقاله بأن تغيير النظام لم يتم على النحو المنشود، وأن ما حدث في أفغانستان والعراق كان فاشلاً، وتطلب ثمناً باهظاً من الدماء والأموال!
لكنه لا يشير أبداً إلى سلسلة الأكاذيب الوقحة التي بُني عليها هذا التصور، بل يكتب على طريقة العديد من الباحثين الأميركيين الذين يقفزون فوق الحقائق التي تحرجهم، أو تنسف رواياتهم.
2- مع ذلك كله يعترف ماكس بوت بأنه يؤمن بالمثل الذي يقول: «عندما تتغير الحقائق أغيّر رأيي»!
السؤال الذي يطرح هنا: ما هذه الحقائق التي تغيرت حتى غيّر صديقنا بوت رأيه؟ دعوني أذكر لكم هذه الحقائق حسب ما أشار إليها:
• الإفراط في التفاؤل بشأن آفاق تصدير الديمقراطية بالقوة، والاستخفاف بالصعوبات، والتكاليف المترتبة على مثل هذا المشروع الضخم.
• لقد أصبحت اليوم مدركاً أكثر من السابق لمحدودية القوة الأميركية، وبالتالي أكثر شكاً في الدعوات لتعزيز الديمقراطية في الصين، مصر، إيران، باكستان، السعودية، تركيا، فنزويلا، وملء الفراغ.
• يجب أن تكون الولايات المتحدة أكثر حرصاً بشأن استخدام القوة العسكرية مما كانت عليه في السابق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أي لحظة الأحادية القطبية، إذ عاد عصر منافسة القوى العظمى بقوة، وبالتالي لا يمكنها تبديد قوتها في صراعات ذات أهمية هامشية، وعليها أن تدافع عن مُثلها العليا لكن بتواضع، وأن تركز على مصالحها الخاصة.
• لقد ثبت أن تغيير النظام بعد غزو العراق يمكن أن يؤدي إلى تحول ديمقراطي أوسع في الشرق الأوسط، مجرد سذاجة خطرة ولدت من مزيج غطرسة ما بعد الحرب الباردة وأحداث 11 أيلول، وأشعر بعد فوات الأوان بالدهشة والذهول لأنني وقعت فريسة لأوهام جماعية سوّق لها بعض الخبراء في السياسة الخارجية مثل برنت سكوكروفت وبرنارد لويس وفؤاد عجمي ليتساءل الكاتب: من هم الأميركيون الذين يعتقدون أنهم يستطيعون تحويل منطقة بأكملها بآلاف السنين من تاريخها؟
• يؤكد ماكس بوت أن نماذج الحروب في فيتنام، وأفغانستان، والعراق أثبتت أنها لم تجلب ازدهاراً ديمقراطياً بل أدت إلى حروب داخلية وانعدام للقانون، وتسببت بالبؤس الكبير للأشخاص الذين كان من المفترض أن نساعدهم، لنتركهم لاحقاً في مأزق، كما أصبحت متشككاً في محاولة تحريض تغيير النظام من خلال العمل السري أو التطبيق الصارم للعقوبات التي مازال البعض ينادي بها في الصين، وكوبا، وإيران، وفنزويلا، ويضرب مثالاً على إخفاق العمل السري لإسقاط النظام السياسي في سورية، كنموذج آخر لسقوط هذه المقاربة؟ لكنه يقول إنه للأسف مازال بعض من حلفائي الأيديولوجيين السابقين لم يصلوا بعد إلى استنتاجاتي حول حماقة فكرة تغيير النظام، ليشير إلى فشل مقارباتهم تجاه إيران داخلياً وخارجياً، ويدعو للتواصل مع طهران، ومعاملة السعودية بطريقة مختلفة.
3- بعد سرده كل هذه الحقائق يدعو ماكس بوت أميركا إلى التوقف عن سياسة فرض العقوبات على الأنظمة التي لا تعجبها، والتي يسميها قمعية فوراً، أي كل ما لا ينسجم مع أميركا هو نظام قمعي! ويقرّ بأن الظروف التاريخية والاقتصادية التي أدت بأميركا للنجاح في ألمانيا، وإيطاليا، واليابان ليست هي نفسها في أماكن أخرى كما أفغانستان أو العراق أو غيره، لكنه هو نفسه يقرّ بأن أحد أسباب النجاح هو اللائحة البيضاء الناتجة عن الهزيمة العسكرية لهذه الدول، التي تثبت الأيام الآن أنها لا تمتلك أي استقلالية في قرارها السياسي، وأنها مجرد بيادق تحركها واشنطن حتى ضد مصالح شعوبها.
4- يقرّ ماكس بوت بأهمية الديناميات المحلية وبفشل أميركا في فهم المجتمعات المحلية، ويضرب مثالاً الرئيس الأفغاني أشرف غني الذي كان يعتقد أنه شخصية مثالية، ليتبين له أنه شخصية مهزوزة، وفرّ قبل دخول طالبان كابول، وأنه لا أرضية شعبية له أبداً، وجيشه لم يكن لديه الدافعية للقتال، والدفاع عن النظام السياسي!
5- ينتقد ماكس بوت مقاربة إدارة بايدن حول قمة الديمقراطية التي عقدت في واشنطن، ويعتبرها ليست ذات فائدة، إذ كيف يمكن جمع 110 دول خلف شعار الالتزام بالديمقراطية، وليسأل ما الذي تشترك فيه: زامبيا والأورغواي حقاً؟
أما النقطة الأهم التي يصل إليها ماكس بوت فهي أن السياسة الخارجية لا تبنى على الآمال الكاذبة أو الأوهام، أو التفكير الرغبوي، بل إن العالم الحقيقي هو شيء آخر غير ما تصوره أفلام وأوهام الناشطين في هوليوود عن القدرة الخارقة لوكالة الاستخبارات المركزية التي سببت لنا نتائج عكسية في حالات كثيرة، وهي ليست كلية القدرة.
يقول: إن التطورات في أوروبا والعالم دفعتني للشفاء منذ زمن طويل من مرض الانتصار الديمقراطي الذي توّلد بعد سقوط جدار برلين، والآن أصبحت أكثر وعياً بصعوبات ذلك، وضرورة توقف أميركا عن سياسة تصدير الديمقراطية، ويدعو للمقاربات الواقعية بعيداً عن مثاليات الأيديولوجيا التي قد يطرحها هؤلاء المنظرون.
وإذا كان ماكس بوت قد شفي، على زعمه، من أمراض الأحادية القطبية ومنها الغطرسة، الاستعلاء، الاستسهال، وضرورة احترام الآخرين وخصوصياتهم، وتطورهم التاريخي والاجتماعي والاقتصادي، وحقوقهم في تقرير مصيرهم، فهل سيشفى مرضى منطقتنا، ويؤمنون بأن العالم يتغير فعلاً، وأن ما نراه في الغرب من مكابرة لا تخفي خلفها إلا معالم الخوف والتراجع التي لن تثمر ديمقراطية مزعومة لجيفرسون في الصحراء العربية، بل هو عالم جديد حكماً، وعلى السوريين أن يفتخروا بأنهم ممن ساهموا في صناعة هذا العالم الجديد، وأنهم سيحصدون قريباً ثمار صمودهم الأسطوري مع قائدهم وجيشهم بعد أن ساهموا في دق مسمار إضافي في نعش الأحادية القطبية، وهذا ليس من باب التفاخر، بل إنه حقيقة موضوعية، وفي الوقت نفسه الذي نقول فيه إن ديمقراطية جيفرسون لا تصلح إلا لشعب جيفرسون لأنها مجرد شعار يخفي خلفه غول الهيمنة، لكن علينا بناء إنموذج سياسي يتناسب مع تطورنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهو أمر أكثر من ملّح في المرحلة القادمة كي يكون ذلك إحدى دعائم تثبيت انتصارنا، وإحدى دعائم شبكة الأمان التي يتطلع إليها ملايين السوريين، ومن يريد أن يتأكد ليتابع جولات الرئيس الأسد الأخيرة كي يقرأ الخلاصات المطلوبة بأنه عالم جديد فعلاً.