هرانت أوهانس أرمني الأصل سوري الهوى والعشق … الأرمن جزء من النسيج السوري اندمجوا بالمجتمع وأدوا واجباتهم الوطنية قبل الإبادة
| شمس الدين العجلاني
ولد خارج الوطن السوري، ونما وترعرع بدمشق القديمة وفي أعرق أحيائها.. وعشق سورية ودافع عنها، وخدمها بكل ما يستطيع من قوة وعزيمة وإيمان.. وكرمته سورية وبوأته أعلى المناصب.. هرنت اوهانس أرمني الأصل وسوري الهوى والعشق.. هو نموذج عن الأرمن السوريين الذين وضعوا سورية في القلب، وعشقوا تراب هذا الوطن وأعطوه الجهد، الفكر، الخير، وبذلوا في سبيله الرخيص والنفيس..
جاءها الأرمن ضيوفاً في طريق الحج إلى الديار المقدسة، جاءها الأرمن هرباً من اضطهاد الأتراك لهم، ففتحت لهم سورية أبوابها على مصاريعها وضمتهم لصدرها ورعتهم وداوت جراحهم… فكانوا نعم السوريون في العطاء وحماية وطنهم سورية…
الأرمن كما نعرف جميعاً جزء من النسيج الوطني السوري يمارسون واجباتهم ولهم حقوقهم كأي مكون طبيعي ورئيسي ضمن المجتمع السوري.
الأرمن وجدوا في سورية واندمجوا مع المجتمع السوري قبل المذبحة، قبل الإبادة الجماعية التي ارتكبها بحقهم الأتراك عام 1915 م والتي راح ضحيتها حسب ما قدره الباحثون ما بين 1 مليون و1.5 مليون أرمني. ومن المعترف به على نطاق واسع أن مذابح الأرمن تعتبر من جرائم الإبادة الجماعية الأولى في التاريخ الحديث، ويعتبر يوم 24 نيسان من كل عام ذكرى مذابح الأرمن، وتركيا تنفي حتى الآن وقوع هذه المجازر التي تؤكدها الأمم المتحدة.
الأرمن منذ وجودهم في سورية لم يشكلوا عبئاً على المجتمع السوري نهائياً فهم أطباء ومحامون وسياسيون وعسكريون ومهنيون وحرفيون مهرة، اشتهروا على مر الأيام بإتقانهم لعملهم ووطنيتهم، فهم فاعلون ومؤثرون في المجتمع السوري، وإن أكبر حضور لهم في مدينة حلب.
خان هوكيدون
تذكر صفحات التاريخ أن الأرمن كانوا في سورية قبل عام 1915 م بدواع دينية، وكان أول حضور لهم في مدينة حلب، حين كانوا يأتونها لتكون محطتهم في مسيرة الحج إلى الديار المقدسة في فلسطين، وكانوا ينزلون في خان أطلق عليه اسم خان «هوكيدون» يقع الآن في منطقة التلل الشهيرة في حلب، وقد تم بناؤه في العام 1540م، وورد ذكره في مخطوطة من القرن الثامن للميلاد، ودعي فيما بعد بخان القدس وهو عبارة عن خان صغير بطابقين له مدخلان أحدهما من التلل والآخر من بوابة القصب.
وكلمة «الهوكيدون» كلمة أرمينية تعني «البيت الروحي» لأن جموع الحجاج الأرمن كانت تجتمع في هذا الخان استعداداً للانطلاق للحج في الأراضي المقدسة في فلسطين، ويطلق أيضاً اسم القدس على هذا الخان وما زالت بعض غرف الإقامة في الطبقة العلوية للخان تحمل كتابات باللغة الأرمينية وذلك على مداخلها وهي تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، ومع الزمن تحول الخان بأكمله إلى حوانيت ودكاكين لبيع الألبسة والنوفوتيه بحيث أدى ذلك إلى تشويه معالمه ولم يترك منه شبر واحد من دون استثمار جائر «على حد قول الباحث عبد اللـه حجار».
وأقام الأرمن في حلب كنيستهم الشهيرة ذات البعد التاريخي والروحاني والاجتماعي والثقافي وهي كنيسة الأربعين شهيداً ويزيد عمرها على 500 سنة وفيها أهم الأيقونات في الشرق التي يعود بعضها إلى العصور الوسطى.
هرانت أوهانس
تبوأ الأرمن في سورية أعلى المراتب في كل أنحاء الدولة وكان لهم الباع الطويل على الصعد الاجتماعية والثقافية والمهنية والمنظمات الأهلية والحكومية، ولمعوا أيضاً في المجال العسكري، فكان منهم القادة الذين خدموا في الجيش والشرطة والدرك، فكان اللواء آرام فرة مانوكيان الذي كان قائداً عاماً لقوات المدفعية السورية وعضو هيئة الأركان العامة في الفترة بين 1949 و1950واللواء آلبير كليجيان والرائد جوزيف بيراميان والنقيب كريكور هندويان. وهراتش بابازيان عضو الكتلة الوطنية والدكتور روبير ارسلانيان طبيب الرئيس شكري القوتلي والدكتور ماهان ماتوسيان من أهم المدافعين عن عروبة لواء اسكندرون والكونت طوروس دي شادارافيان أول نقيب للمحامين في سورية «حلب» وذلك عام 1912 م، كما ساهم كل من أرتين مادويان وهيكازون بوياجيان في مطلع العشرينيات من القرن الماضي في تأسيس النقابات العمالية والحركة الشيوعية في كل من سورية ولبنان.. وهرانت اوهانس معاون وزير الداخلية..
برع الأرمن السوريون في العمل الصحفي فحتى عام 1978 م كانوا يصدرون عشر صحف يومية وإحدى عشرة مجلة أسبوعية واثنتين وثلاثين مجلة شهرية وثلاثاً وأربعين دورية متنوعة… وأول جريدة باللغة الأرمينية صدرت في حلب كانت باسم «فرات» وكان ذلك عام 1868 م.
ومن هؤلاء الأرمن السوريين كان هرانت مالويان المعروف والمسجل رسمياً في النفوس السورية باسم هرانت اوهانس الضابط الأرمني السوري الذي عرف بالذكاء والقوة والوطنية، ويعتبر من الضباط السوريين الأفذاذ الذين كان لهم الأيادي البيضاء في إنشاء قوى الأمن الداخلي والدرك ( قبل أن تدمج الشرطة مع الدرك في عام 1958 م).
أتقن هرانت خمس لغات إضافة إلى لغته الأرمنية (التركية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية واليونانية) وولد في مدينة موش (في أرمينيا التاريخية شرق الأناضول) عام 1895 م، والده اوهانس ووالدته فيلو، درس في مدينة فينيسيا (البندقية) ومن ثم تخرج في المدرسة الحربية في اسطنبول، وفي عام 1916 توجه إلى الجبهة الجنوبية ضمن الفرقة 53 بالجيش العثماني برتبة ملازم أول، وفي العام 1918 م وقبيل إعلان وقف إطلاق النار في الحرب العالمية الأولى، وقع هرانت أسيراً في يد ما سمي القوات العربية في درعا التي كان يقودها المدعو لورنس العرب، لكنه نجح بالهرب إلى بيروت لينخرط هناك في صفوف فرقة من المتطوعين الأرمن ومن ثم يأتي ليستقر بدمشق.
سجل القيد المدني لهرانت اوهانس في أعرق أحياء دمشق، حيث كان من أهالي حي سوق ساروجة حارة الورد.
أثناء احتلال كيليكيا من الجيش الفرنسي عام 1918، أرسل هرانت إليها كمساعد للحاكم الفرنسي لشؤون الجندرما، حيث ساهم بشكل فعال في معارك الدفاع عن كيليكيا في مرعش والأمانوس ضد الكماليين، إلى أن تمت عملية إخلاء كيليكيا بتواطؤ مخزٍ من جانب الفرنسيين. بعدها نقل هرانت إلى لواء اسكندرون قائداً للجندرما، لتتكرر خيبة أمله ثانية بتواطؤ فرنسا في تسليمه إلى تركيا.. ليعود بعدها إلى دمشق حيث تدرج في سلك الشرطة والدرك إلى أن عين في منصب القائد العام للدرك ومن ثم معاون لوزير الداخلية « 1946 م إلى 1950 م».
زمن المستعمر الفرنسي
ساهم هرانت في معارك النضال الوطني من أجل الاستقلال السوري، رافضاً عرضاً من الجنرال السفاح أوليفا روجيه قائد حامية دمشق الفرنسية بتشكيل فرقة عسكرية من الشباب الأرمن لمساندة القوات الفرنسية أسوة بالكتيبة المراكشية والمغربية والسنغالية، وكان أغلب الأرمن في ذاك الوقت عاطلين من العمل، فعرض السفاح أوليفا روجيه أن يمنحهم رواتب عاليةً ليكونوا دعماً لجيش الاحتلال الفرنسي، وحين رفض هرانت العرض الفرنسي قال جملته المشهورة: (سيدي الجنرال، أرجو أن تدعوا الأرمن وشأنهم).
هذا الرفض من هرانت، وهذه الوقفة الشجاعة كان لها الأثر العميق لدى الساسة السوريين، فقام رئيس الجمهورية آنذاك عطا الأيوبي مع مجموعة من الساسة والأعيان بزيارة مطرانية الأرمن، وبعد مقابلتهم للمطران دوهموني ألقوا كلمات وجهوا فيها الثناء والتبجيل لهرانت على مواقفه الوطنية، وقدموا مساعدة عبارة عن كمية من أكياس الطحين ليتم توزيعها على الأرمن المحتاجين.
وخلال العدوان الفرنسي على البرلمان وعلى دمشق يوم 29 أيار عام 1945 م، كان لقوات الدرك بقيادة هرانت دور محوري في الدفاع عن دمشق والبرلمان.
في تلك الأثناء راحت المدفعية الفرنسية تقذف دمشق بالطائرات والمدفعية، وقصفت قلعة دمشق، حيث كان هرانت مع مجموعة من الدرك والشرطه، ونتج عن هذا القصف الشديد هدم العديد من الأبنية ومهاجع السجن في القلعة وظلت الجثث تحت الأنقاض ويقال إن عدد الشهداء من درك ومواطنين وسجناء زاد على ثلاثمئة قتيل وأصيب بجروح إثر ذلك قائد الدرك السوري هرانت بشظايا قنابل الفرنسيين في صدره وأنحاء جسمه كما أصيب عدد من الوطنيين الموجودين في القلعة مع هرانت.
ورحل الرجل الوطني
بعد الاستقلال عام 1946م، عين العميد هرانت قائداً عاماً لقوى الأمن الداخلي. عاش هرانت فترة الصراعات العسكرية والانقلابات العسكرية في سورية والتي ابتدأت عام 1949 م، وجعل نفسه في منأى عنها ورفض بدبلوماسيته المعهودة عرض حسني الزعيم لاستلام قيادة الجيش السوري حين عرض عليه منصب القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة السورية، ولكنه رفض بدبلوماسية مفضلاً عدم الانخراط في لعبة السلطة.. وتتالت الانقلابات العسكرية في سورية بعد ذلك، فوجد هرانت أن أفضل عمل يقوم به في هذه المرحلة هو تقديم استقالته والابتعاد عن السياسة نهائياً.
وبالفعل استقال العميد هرانت وابتعد عن السياسة، بسجل مهني وطني مشرف وعدد كبير من الأوسمة، وبعد التقاعد عمل هرانت بدمشق وكيلاً لإحدى الشركات الإيطالية.
وافت المنية الضابط هرانت مالويان المعروف باسم هرانت اوهانس الضابط الأرمني السوري عام 1978م، وأجريت له المراسم الجنائزية بكنيسة الأرمن الكاثوليك بدمشق، برعاية ومشاركة المطران يوسف أرناؤوطيان مطران الأرمن الكاثوليك بدمشق. وحضر من حلب خصيصاً رئيس أساقفة طائفة الأرمن الأرثوذكس المطران سورين كاتارويان مع خمسة من الكهنة ليشاركوا بالقداس الجنائزي وبمراسم الدفن، وكان بين الحضور لفيف من الضباط القدماء والسياسيين، وعدد غفير من الجماهير الذين حملوا نعش القائد هرانت على الأكتاف إلى مثواه الأخير.