ثقافة وفن

موسم التنافس الرمضاني

| إسماعيل مروة

منذ انتشار الفضائيات، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً كان التنافس على أشده في الميدان الدرامي، حيث كانت الدراما السورية والدراما المصرية تتنافسان على الاستئثار بالموسم الرمضاني على المحطات العربية الفضائية، وبدأت من خلال شركات أخذت من منطقة الخليج مستقراً لها، فأنتجت أعمالاً مهمة كانت الشركات المحلية والرسمية غير قادرة على إنتاجها لسبب أو لآخر، فأنتجت أعمالاً سورية غاية في الأهمية: عز الدين القسام، انتقام الزباء، أبو كامل وغيرها من الأعمال المميزة، والدراما المصرية أنتجت أعمالاً ذات قيمة أيضاً، وتنوعت الأعمال ما بين التاريخي المشترك الذي لا خلاف حوله، والمعاصر الذي تتشابه فيه الأحداث بين بلد وآخر، والملحمي الأسطوري، وسوى هذه الموضوعات، ومن ثم أنشئت شركات في جناحي الدراما سورية ومصر، وباتت تنتج أعمالاً مهمة وذات أبعاد محلية وعربية، ونشطت هذه الشركات، ونشطت الدراما بشكل كبير جداً..

وشيئاً فشيئاً بدأت هذه الشركات أو رؤوس الأموال بالتوجه إلى نوعية خاصة من الأعمال التي لا يمكن أن تشكل وحدها صورة للمجتمع العربي، فصارت مسلسلات البيئة في سورية، ومسلسلات الصعيد في مصر، وكلاهما شكل موجة درامية محببة لدى المشاهد، ولكنها لا تقدم شيئاً له، ولمشكلاته العديدة المعاصرة، وتماهت الصورة الحديثة والمعاصرة تحت ذرائع عديدة، وتوالت الأزمات والحروب على الأمة، وترافقت مع تطور تقاني مذهل، الحروب ألغت الكثير من معتقدات الناس، والتقانة حولت الاهتمام من الشاشات إلى الأجهزة المحمولة التي ترافق المرء في كل مكان، وفي حلّه وترحاله.. وجاءت موجتان مهمتان، الأولى الأعمال الغريبة المتقنة والمشوقة، والمشغولة بتقنيات عالية لتقدم لنا بأصوات فنانين نحبهم، وهذه الموجة أسهمت في البحث عن مقارنات من حيث الجمالية والموضوعات، وفيها الكثير من الهروب من مشكلاتنا، خاصة مع العجز عن مواجهتها بشجاعة، وما دام العمل يتحدث عن بيئة أخرى فإن المشاهد يتقبل كل شيء! والموجة الثانية تحوّل العالم إلى المنصات والتي لا تعتمد الموسمية، وقد استطاعت هذه المنصات أن تقدم أعمالاً تجذب الجمهور، وترفع فنانين وتخفض آخرين..!

ومع الحروب التي تشهدها المنطقة حدثت هجرات الفنانين، وصارت الأعمال تحمل هوية عامة لا تمثل البيئة، بل إن شركات بنيت على إنتاج أعمال مأخوذة من أفلام ومسلسلات عالمية، واستطاعت هذه الأعمال أن تحاكي رغائب الجمهور، وأن تنجو من ملاحظات الرقيب أو الرقباء..! ومنذ سنوات وعت الدراما المصرية المشكلة، بل وعى صناع الدراما المصرية الأزمة المقبلة فاستوعبوا الطاقات والمبدعين، وصبغوهم بالصبغة المصرية، ومن خلال تعدد القنوات الفضائية المحلية الخاصة والعامة أوجدت شبكة مهمة يمكنها أن تستغني عن التسويق الخارجي، مع أهميته، والتفتت الدراما المصرية إلى: الأدب المصري الأصيل والخاص، المشكلات المصرية المعاصرة، المعضلات الفكرية التي تواجه المجتمع المصري، ويشهد الجميع أن الدراما المصرية في السنوات الماضية قدّمت أعمالاً مهمة وتشريحية مثل سلسلة (الجماعة) التي قدمت بالوثائق العلمية حياة جماعة الإخوان، وقدمت بشكل جريء وعلمي، هناك من وقف معها، وهناك من انتقدها، لكنها في النتيجة سخرت الدراما لعرض الصراع الفكري في المجتمع، ونادى كثير من المثقفين بضرورة اتباع الفعل نفسه في البلدان العربية الأخرى، ولكن الدراما السورية مع استمرار الأزمات بقيت مشظاة بين الشركات المنتجة والشركات العارضة التي تتبنى، وافتقدت، وهذا حق، وجود أقلام دارسة ومحايدة تقوم بدراسة الظواهر الفكرية دون نظرة مسبقة، ودون غاية التمجيد أو الإدانة، فلم تنجح الدراما السورية في الغوص في عمق المشكلات الفكرية والمجتمعية، وكانت ترصد المجتمع دون تشريح، وتصور حالات فكرية والأقلام التي كتبتها تجهل الكثير عنها! وبما أن منظومة العرض الداخلية ما تزال ضيقة، فإن درامانا بقيت تدور في فلك رضا العارض، وتدخله في التفاصيل كلها! والحرب والأزمات لم تستطع أن تعلّم صناع الدراما أن أي عمل جماعي يحتاج إلى نقاش، ولا يجدي معه التشبث بالرأي، فعمل يكلف المبالغ الطائلة لا يكفي أي أن ينطلق ليؤدي غاية واحدة أو فكرة واحدة لتدين أو تمجد.. الموسم الحالي كأنه يقرع جرس إنذار لصناع الدراما، وبأن التنافس على الموسم الرمضاني لم يعد سياسة صحيحة، وأن هذه الصناعة تستمر على مدار العام، وقد تتوافق مع تسويق رمضان، وقد لا تتوافق، والمحطات والمنصات تشكل عنصراً مهماً للتنافس والتجديد، والعودة إلى صناعة درامية فكرية مجتمعية ترتكز إلى الأدب المكتوب أو القضايا الاجتماعية المعاصرة مهما كانت عميقة، شريطة أن تتم كتابتها من كتاب يتسمون بالعمق في الرؤية، وليسوا ممن إذا ألقوا نكتة أرادوا للعالم كله أن يسمع ويهلل.. جرس إنذار بعده ما بعده.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن