ثقافة وفن

من الظلم مطالبة الإنسان بموقف عما لا يعلم عنه شيئاً!

| غسان كامل ونوس

الإنسان موقف، ويعرف المرء من موقفه، الذي يعلنه إزاء حدث ما أو فكرة أو قضيّة. ويتكامل قوام الشخص، ويتجذّر كيانه، إذا ما أكدت ممارساتُه أقوالَه؛ فصار ممّن يحسب لهم حساب، وينظر إليهم باهتمام واحترام.
ولا بدّ للموقف من معطيات، تخصّ الموضوع قيد الطرح؛ كي تتسنّى للشخص قراءتها، ويستطيع التبصّر فيها وتحليلها، ومقارنتها بما سبق، وما واكب، من وقائع وآراء، لاستنتاج مشهد، أو موقع، أو مكمن، أو فرصة… ممّا يتيح الوقوف على عتبة ملائمة لرؤية تخوّل القول الفصل، والفعل المناسب. ومن المؤكّد أن صوابيّة الناتج هذا، تتعلّق بإمكانيّات هذا الشخص العقليّة والإراديّة، للوصول إلى الجوهر، والمغزى، والغاية من هذا الذي يجري، وثقتِهِ بنفسه، وقدرتِهِ على اتّخاذ موقف، على الأقلّ، بينه وبين ذاته، وإعلان قرار. وتختلف أهمية ذلك وأصداؤه وتبعاته، بأهمية هذا الكائن، وحيداً، أو فرداً مسؤولاً في أسرة، أو مؤسّسة، أو منظومة، أو دولة…

لكنّ المؤكّد أيضاً أن ذلك كلّه يتعلّق بالمعطيات أوّلاً؛ كثافتها بالنسبة إلى ما هو مثار، ومصداقيّة مقدّميها، ودقّة فحواها، والوقت الذي تصل فيه قبل الأوان؟! ومن الطبيعيّ، أن تكون لذلك علاقة بمن مع هذا الشخص، ومن حوله، ومسؤوليّتهم، ومستواهم، ودرجة موثوقيّتهم، وولائهم للقضيّة، التي يندرج الموضوع في صلبها، أو له علاقة بها، مباشرة أو غير مباشرة.
إن اتّضاح الرؤية لكلّ شخص، أمر مهمّ؛ لكي يكون له رأي ومشاركة مجدية، ومن مجموع هؤلاء أو أغلبيتهم، يتشكّل الرأي العام، الذي يتأثّر-ويؤثّر- بالمعلومات وحيويّتها وبثّها وانتشارها. لقد كان يُشتكى من الشحّ في المعلومات، قبل سنوات مضت، حين كان الانتقال صعباً، والتواصل عسيراً. حتّى يقال إن اغتيال الرئيس الأميركي كيندي في ستينيّات القرن الماضي، استغرق أشهراً حتّى تمّ تعميمه على الولايات المتّحدة كلّها.
أمّا الآن، فالشكوى معكوسة، في هذا العصر المسكون بحمّى التواصل والاتّصالات، وسيل الرسائل، وأمواج الصور والتعليقات والتحليلات والأخبار العاجلة، التي صارت تقع في صلب البثّ المتّصل بلا انقطاع، وتأخذ عنوانه «المباشر»، لدى كلّ واقعة أو حدث أو تصريح أو إعلان، أو قول لمسؤول مهمّ، أو أي مسؤول في دولة مهمّة!
وهذا ما يسبّب صعوبة من نوع مختلف، في الرؤية لدى المواطن المهمّ أو العادي؛ فإذا كان على المرء أن يتلقّى كلّ هذا الكمّ من المعطيات، وفي وقت لا يسمح بالتفكير فيها، وهو يعلم، وجميعنا كذلك، أن من مهمّات جهات لها مصلحة في قضيّة ما، أن تروّج لها؛ فتقدّم ما يفيد وجهة نظرها، ويشرّع رؤيتها، ويحقّق منافعها، وستخفي أو تقزّم أيّة معلومات أخرى. وتتضارب المصالح، وتتعدّد الرؤى، وتتناقض التصريحات، وتتنافر المعلومات، حسب الباثّ، والموقع، والشخص المعنيّ، والمموّل، والدولة المهيمنة؛ كما تختلف القدرات الإعلاميّة، وإمكانيّات التغطية والوصول إلى المنابع، والحصول من المصادر الموثوقة على ما هو واقعيّ وحقيقيّ، ويمكن تعميمه أو نشره.
إن على الجهات المسؤولة عن مواطنيها، أن تزوّدهم بالوقائع، كما هي، غير مفلترَة ولا مبالِغة إيجاباً أو سلباً، مع الشرح الذي يفسّر ويعلّل ويؤمّل.. وهذا مهمّ؛ لكنّ الأهمّ أن يبقى المواطنون على بيّنة ممّا يجري؛ لا أن تصلهم الأخبار مشوّشة، أو مضلّلة، من وسائل ومؤسّسات قادرة، لكنّها غير جديرة بالثقة، ومواقفها مفضوحة، وغاياتها القاتمة لا تخفى، لكن.. أين المفرّ؟! إذا ما كنت مضطراً أن تبحث عن خبر أو أي معلومة عن منطقة، أو تتلهّف لمعرفة مصيرِ قريبٍ أو فلذة كبد؟!
إنّنا نظلم الناس كثيراً، حين نطالبهم بموقف أو رأي، إزاء قضيّة، لا يعلمون عنها الكثير، ونظلمهم أكثر، ونخطئ، حين نطلب منهم، وهم في عمائهم أو جهلهم أو قلقهم، أن يكونوا حاضرين لأي طلب، متحمّسين متحفّزين منتظرين أمراً ما! وفي الغالب تقود كثيرين منهم حواسّهم وعفويّتهم إلى ما هو مجدٍ ومرتجى، ومدعاة للتقدير والاحترام.
والموضوع هذا يختلف عن قضيّة فتوى، تعمّم، وليس على المؤمنين إلا الالتزام، وعن اجتهاد في أمر قديم، يُتّخذ بشأنه موقف، أو أمر، يُلقى؛ فيقول الجميع: سمعاً وطاعة يا مولاي!
الحال الآن مختلفة، وإذا ما ترك الجمع على ما يَلقى، ويلاقي، ويسمع؛ فقد نجده في موقف آخر، ومكان آخر، أو نراه مبعثراً مشتّتاً حائراً، يبحث عن بصيص أمل، أو نور حقيقة، أو يصبح خائباً محبطاً هشّاً، يسهل اختراقه أو اقتياده إلى أي ريح أو قوّة…
ولا يفوتنا هنا موضوع السريّة، والمعلومات التي قد تؤثّر على الروح المعنويّة، وأهمية التشجيع والتحفيز والمؤازرة والمواكبة للمقاتلين وبيئتهم الحاضنة، ولكنّ هذا لا يمكن اتّخاذه تسويغاً للعجز أو القصور أو المغالطة في التقدير، ولا دافعاً لحجب كلّ شيء عن الجميع؛ فتكون الخسائر أكثر، والكارثة أكبر!
لا شكّ في أن الأغلبية تعرف معنى الوطنيّة، وتقدّر الأحوال والظروف، وتتحمّل المرار في سبيل صدّ العدوان، وردّ كيد الغازين. لكنّ علينا أن ندعم هؤلاء، ونقوّيهم، ونتقوّى بهم؛ بالوصول إليهم؛ لمواساتهم على الأقلّ، ومساعدتهم، وتشجيعهم، وإعلامهم بأن هناك من يحترمهم، ويقدّرهم، ويهتمّ بشؤونهم، ويهتمّ بآرائهم… ولا أعتقد أن وسائل التواصل الحقيقيّة انعدمت، أو طرق الاتّصال الموثوقة تبخّرت!
الأمر يحتاج إلى وعي واهتمام، ولا يضيع القصد في لَدُنِ الكرام!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن