يتواصل الاهتمام الدولي بزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو، والتي اعتبرها الغرب دعماً صريحاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه ضد أوكرانيا، خصوصاً بعد إصدار المحكمة الجنائية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي بوتين.
ليس من قبيل المصادفة اختيار الرئيس الصيني موسكو وجهته الأولى بعد إعادة انتخابه للمرة الثالثة كرئيس للصين ومنحه ثقة الحزب الشيوعي، خصوصاً أن الزيارة إلى موسكو، جاءت بعد تحقيق شي جي بينغ إنجازاً تاريخياً، عبر رعاية الصين إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.
على الرغم من إعلان الصين عن مبادرة لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا، إلا أن الغرب عموماً وأميركا على وجه الخصوص، رأت في الزيارة مؤشر بالغ الأهمية، على مغادرة الصين منطقة الحياد المفترض، ليس في الحرب الدائرة في أوكرانيا فحسب، بل واقتحامها منطقة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، أعرب صراحة عن قلق بلاده البالغ إزاء زيارة الرئيس شي إلى موسكو، معتبراً أن الزيارة شكلت دعماً صريحاً من بكين لموسكو بالحرب الدائرة في أوكرانيا.
المتحدث باسم الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي صرح في وقت سابق قائلاً: إن الولايات المتحدة لا تريد وقف إطلاق النار في أوكرانيا لأن ذلك سيسمح لروسيا بالاحتفاظ بمكاسبها الإقليمية وبإعادة تجميع قواتها أو تجميد الخطوط في مكانها وهذا ما يعزز موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفيما اعتبر الكرملين أن العلاقات الروسية الصينية وصلت إلى أعلى مستوى في تاريخهما، أكد الرئيس الصيني أن علاقات بلاده مع روسيا القائمة على شراكة شاملة وتعاون إستراتيجي، دخلت عصراً جديداً وتجاوزت كونها علاقات ثنائية، وباتت ذات أهمية كبيرة للنظام العالمي.
الرئيس شي اعتبر أن علاقة بكين بموسكو أصبحت أكثر من ضرورية، وذلك لمواجهة الهيمنة الأميركية الاحادية، وأعلن في خطاب ألقاه هذا الشهر قبل بدء زيارته إلى موسكو أن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تسعى إلى احتواء وتطويق وقمع الصين.
الرئيس شي لخص خلال وداعه لبوتين متانة أسس الاتفاق على المرحلة القادمة وعلى متانة العلاقة الصينية الروسية بالقول: «الآن هناك متغيرات لم نشهدها منذ 100 عام، وعندما نكون معاً، نستطيع أن نقود هذه التغييرات»، ليرد بوتين قائلاً: «أوافقكم الرأي».
ما قاله شي لبوتين، يؤكد أن القمة الروسية الصينية لم تقتصر على تبادل وجهات النظر المشتركة لمستقبل العلاقة وتطورها بين موسكو وبكين، أو لمجرد البحث في المبادرة الصينية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، بيد أن القارئ بين السطور والباحث والمدقق، سرعان ما يكتشف أن القمة بين الرئيسين، وضعت حجر الأساس وأقامت الأسس التي سيشيّد عليها النظام العالمي الجديد.
التاريخ علمنا أن كتابة وصيانة مبادئ أسس النظام العالمي، هي من حق المنتصر في الحرب، وإذا كانت المتغيرات التي تكلم عنها الرئيس الصيني، والتي لم يشهدها العالم منذ 100 عام، مؤكداً في الوقت نفسه على قيادة تلك المتغيرات بالتكافل والتضامن مع بوتين، فهذا له تفسير واحد وهو ممنوع هزيمة روسيا وبوتين شخصياً، في حربه على الهيمنة الأحادية لأميركا، وذلك لضمان قيام وصيانة مستقبل جديد.
إن نظاماً عالمياً جديداً لا يعني بالضرورة الحرب وإعلان الرابح من الخاسر، فحين نتحدث عن النظام جديد، فذلك يوجب علينا وضع تصور واضح للقيام بإصلاح النظم والمبادئ والقوانين التي وضعتها الولايات المتحدة الأميركية، إبان انتهاء الحرب العالمية الثانية، وذلك لضمان إدارة المحافل الدولية، حسبما تقتضي مصالح أميركا فقط، ولاسيما مجلس الأمن والامم المتحدة والبنك الدولي وقوانين العقوبات الدولية والخاصة، الأمر الذي جعل أميركا قادرة على التحكم بإدارة العالم كيفما شاءت.
كلام الرئيسين الروسي والصيني عن سعيهما لبناء أسس نظام جديد قائم على التعددية كاسر للاحتكار الأميركي الاحادي، يعني أن العالم أمام متغيرات جيوسياسية واقتصادية جوهرية كفيلة بتغيير الخريطة العالمية بل بتغيير وجه العالم.
إذاً، غطرسة واحتكار إدارة الولايات المتحدة الأميركية صارت آيلة للأفول، أما القوة التي يمكنها كسر الأحادية الأميركية فهي الصين، نظراً لما تمتلكه من قدرات اقتصادية وتكنولوجية ضخمة، لكن هذه القدرات ليست كافية وهي بحاجة إلى تحالف وثيق مع روسيا لضمان إدارة المتغيرات العالمية القادمة وحرصاً على التوازن العالمي المطلوب، وهو توازن لن يكون ممكناً إذا بقي محصوراً في منطقة شرق آسيا، أي بين الصين وروسيا، وهو بحاجة لأن يشمل منطقتي غرب آسيا والشرق الأوسط.
من هنا كان لا بد من وجود إيران في الدائرة المفتوحة، وذلك لضمان هذا التوازن العالمي الممتد من الصين إلى روسيا مروراً بإيران، ويبقى السؤال: ماذا عن الشرق الأوسط، خصوصاً تلك المنطقة التي تتشابك فيها المصالح الإستراتيجية المشتركة اقتصادياً وأمنياً ونفطياً بين كل من روسيا والصين وإيران؟
لقد قرأت المملكة العربية السعودية جيداً، تلك المتغيرات، وارتأت بأن مصلحتها الإستراتيجية لم تعد محصورة بالحليف التقليدي أميركا، لكنها تكمن بالشراكة مع دول الضامنة لقيام نظام عالمي جديد قائم على التعددية وتضم الصين وروسيا وإيران، فضمنت السعودية بذلك مقعداً لها ضمن هذه المجموعة، خصوصاً وبعد إعلان اتفاق بكين، الذي قضى بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران وطي صفحة العداء بينهما.
ما شهدته سورية مؤخراً من قصف مباشر لقواعد القوات الأميركية الموجودة في شرق الفرات وحقول النفط السوري، يدخل في إطار الرسائل السورية الإيرانية المشتركة، والموجهة لأميركا وبتشجيع روسي ضمني، مفادها أن القرار قد اتخذ لإنهاء الاحتلال الأميركي للثروات وللأرض السورية، وان التغول الأميركي في طور الأفول، وأن المعادلة قد تغيرت، وأن تغيير الموازين يبدأ من سورية، والمعادلة الجديدة لن تكون في مصلحة بقاء الوجود الأميركي في سورية والمنطقة.
إذا كانت رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فإن رحلة النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب قد بلغت نقطة اللا عودة.