قضايا وآراء

لقد قلَّلْنا من شأنهم منذ البداية!

| د. بسام أبو عبد الله

خلال الأعوام الثلاثة الماضية ذهبت القيادات الغربية للجلوس على كرسي الاعتراف أمام العالم، والقول إن نهاية الهيمنة الغربية قد دنت، وإن المكابرة في هذا الموضوع لم تعد تجدي نفعاً في عصر وسائل التواصل والتكنولوجيا، وبالتالي فإن السؤال هنا: ماذا علينا أن نعمل؟ كما طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام نخبته الدبلوماسية في لقاء له في آب 2019، حيث ركز ماكرون آنذاك على أن الغرب اعتاد على الهيمنة منذ القرن الثامن عشر مستنداً إلى ثلاث ركائز كما سماها:

• عصر التنوير الثقافي الفرنسي في القرن الثامن عشر.

• عصر الثورة الصناعية البريطاني في القرن التاسع عشر.

• عصر القوة الأميركية في القرن العشرين.

وهذه الركائز الثلاث التي اعتاد عليها الغرب، بدأت تأفل بسبب أخطاء الغربيين من جهة، وبزوغ قوى جديدة في النظام العالمي، وإعادة النظر في النظام الاقتصادي بصورة قوية حسب تعبيره، ويذكر منها: الصين، روسيا، الهند حيث تتميز هذه البلدان بإلهامها الاقتصادي الكبير.

وألقى ماكرون اللوم على الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في مواجهة العديد من الأزمات، ولا يرتبط الأمر بعهد الرئيس السابق دونالد ترامب فقط، وإنما بسياسة الرئيس الأسبق بيل كلينتون تجاه الصين، ومقاربة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن العسكرية (المحافظين الجدد واستخدام القوة)، والرئيس الأسبق باراك أوباما وأزمته المالية العالمية عام 2008، وسياسة التيسير الكمي، هذه كلها أخطاء جوهرية، ويخلص ماكرون للقول إن أحد الأخطاء الفادحة هو: التقليل الكبير من ظهور القوى الناشئة، ليضيف: لقد قللنا من شأنهم منذ البداية!

اعتقادي أن كلام ماكرون عن سبب التقليل من شأن الآخرين هو نمط التفكير الغربي الاستعماري، والاستعلائي، وعقل الهيمنة والتوسع، واحتقار ثقافات وحضارات الآخرين، والنظرة الدونية لهم، وقد يكون السبب الآخر هو: الانبعاث الحضاري والثقافي لدى كل القوى الصاعدة، والبازغة بعد التمتع بالقوة الاقتصادية، إذ لم تعد هذه الدول تؤمن بالحضارة الغربية، وعملت على تعزيز ثقافتها الوطنية، وحسب ماكرون: فإن بدء هذه الدول بالإيمان بثقافتها الوطنية سوف يعني التخلص التدريجي من الثقافة والفلسفة الغربية التي عمل الغرب على غرسها في الماضي، وهذه هي بداية نهاية الهيمنة الغربية!

أحد الأسرار التي يكشفها ماكرون هو أن نهاية الهيمنة الغربية ليست في التدهور الاقتصادي، ولا العسكري، بل في التدهور الثقافي، إذ عندما لا يعود لديك الإمكانية لتصدير قيمك للبلدان الناشئة فهذه هي بداية تراجعك!

مقابل رؤية الهيمنة الغربية التي يعترف ماكرون وغيره من النخب الغربية بدخولها مرحلة التراجع، وأفولها، تبرز طروحات الصين المتكاملة تجاه العالم بعد ثلاثة قرون من هذا الاستقطاب والصراعات، واللعبة الصفرية التي أرستها عقلية الهيمنة الغربية، ففي شهر آذار 2013، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ إن لدى شعوب العالم مصير مشترك من خلال العيش في القرية العالمية حيث يلتقي التاريخ والواقع.

وهو ما دفع الرئيس الصيني لطرح مشروع «الحزام والطريق» كمشروع صيني عالمي لتعزيز التنمية المشتركة في العالم، وبدلاً من الحروب والصراعات، والدماء التي عمل الغرب على تغذيتها عبر قرون، استثمرت الصين ما لا يقل عن تريليون دولار في هذا المشروع، وخلقت مئات آلاف فرص العمل، وانتشلت ملايين البشر من آفة الفقر، وحسب الرئيس شي فإن العالم بحاجة للتنمية الشاملة والمستدامة (وهو ما طرحه عام 2021) ولشراكة تنموية عالمية، موحدة ومتوازنة وشاملة، منطلقاً من مفهوم بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، وهو ما يتطلب حماية السلام العالمي من خلال الحوار والتواصل والتعامل على أساس الصدق، بهدف إنهاء عقلية الحرب الباردة، ما دفع الرئيس الصيني لطرح مبادرة الأمن العالمي عام 2022 للقضاء على الأسباب الجذرية للنزاعات الدولية، وإذا أضفنا لذلك مقاربة «تعزيز ازدهار الحضارات» وتكاملها لبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية انطلاقاً من القيم المشتركة للإنسانية: العدالة، الديمقراطية، الحرية، السلام، التنمية، فإننا نصل إلى مقاربات صينية متكاملة تقوم على ركائز عدة:

• التنمية المستدامة.

• حماية السلام- والأمن المتكامل أي الأمن العالمي.

• المصير المشترك للبشرية.

• تعزيز تكامل وازدهار الحضارات وليس صراع الحضارات كما يطرح الغربيون وخاصة الأميركيين.

انطلاقاً من نجاح التجربة الصينية الداخلية، وانطلاق بكين نحو العالمية بدءاً من عام 2013 مع طرح مشروعها «الحزام والطريق»، وبناء تحالفات وشراكات تقوم على احترام الآخر، وتحقيق نظرية «رابح- رابح»، فقد نجحت بكين في إنجاز التقارب الإيراني- السعودي إذ بدت أنها شريكاً مؤتمناً وجديراً بالثقة حسب قول أحد الصحفيين السعوديين، وقدمت أنموذجاً جديداً للدبلوماسية العاقلة والواعية والحضارية، مقابل اعتراف المسؤولين الأميركيين أنهم كانوا عاجزين عن إنجاز هذا الاختراق بسبب علاقاتهم السيئة مع الطرفين، وهذا يعني أن العقل الأميركي كان يعمل دائماً على إشعال الحروب، وإدارة الأزمات، وليس حلها، من أجل استمرار هيمنتها، والتوسع على حساب مقدرات الشعوب وثرواتها ودمائها.

التجربة الأخرى نجدها لدى موسكو التي تعمل من ناحية ثانية على إحداث اختراق في العلاقة السورية- التركية بالشراكة مع إيران، وهو جهد يتلاقى تماماً مع المقاربات الصينية من أن الحوار والدبلوماسية والتفاهم وتحقيق التنمية للشعوب والأمن المتبادل والمتكافئ، هي مفاتيح أساسية لعالم المستقبل الذي يشهد تغيرات وتحولات هائلة لم يشهدها منذ مئة عام، حسب تعبير الرئيس الصيني على أبواب الكرملين، والتي أجابه بوتين بأنه يتفق معه بذلك.

مقابل الروس والصينيين نجد أن الهند تقترب كثيراً من هذه المفاهيم، إذ أجاب وزير خارجية الهند عن سؤال أحد الصحفيات حول موقف الهند: هل هي مع الصين أم الولايات المتحدة؟ بالقول لها: إن هذا السؤال خاطئ في الطرح، لأن الهند التي تشكل خمس سكان الأرض، وسادس اقتصاد في العالم، لا تتخذ قرارها إلا بناءً على قيمها ومصالحها، ولاحظوا معي أنه وضع القيم أولاً قبل المصالح، ووزير خارجية الهند جايشانكار الذي أكد أنه ليس مضطراً لتحديد سياسة بلاده وفق اعتبارات الغرب، يطرح أيضاً أنه لا حداثة بالتغريب! أي إن القيم الوطنية وتاريخ الحضارة الهندية، ولغتها وثقافتها الغنية، هي مصدر الرؤية الهندية السياسية، وليس الفلسفة الغربية والقيم الغربية.

أما الرئيس البرازيلي لولادا سيلفا فقد أجاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما سأله هل سترسل البرازيل أسلحة إلى أوكرانيا؟ بالقول: إن معركتنا هي مع الفقر في البرازيل، وليست مع روسيا!

أي إن أولوية البرازيل تنمية شعبها واقتصادها، وليس إنفاق المليارات على الحروب وقتل الآخرين، وتجويعهم من خلال الحصار والعقوبات.

وللولوج أكثر في مقاربات القوى الصاعدة والناشئة، فإن الزعيم الوطني الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، كان قد اختصر لأحد الصحفيين مقاربة بلاده عندما سأله: هل القادة مثل عرفات والقذافي وكاسترو، هم نماذجك لحقوق الإنسان؟ بالقول: إن أحد الأخطاء التي يرتكبها المحللون السياسيون (يقصد هنا على ما أفهم الغربيين) هو الاعتقاد أن أعداءهم يجب أن يكونوا أعداءنا، هذا الأمر لا نستطيع القيام به، ولن نفعل ذلك أبداً، لدينا نضالنا الخاص، ونحن ممتنون للعالم لدعمه نضالنا، ولكن لدينا سياستنا الخاصة، وموقفنا تجاه أي بلد يعتمد على موقف تلك الدولة من نضالنا، وهؤلاء وقفوا مع نضالنا حتى النهاية، ولا يوجد سبب يدعونا للتردد في الإشادة بالتزامهم.

صحيح أن كلام الراحل مانديلا قديم حتى قبل أن يصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا، لكنه يعكس مقاربة جنوب إفريقيا اليوم للقضايا العالمية وهي عضو مؤسس في مجموعة بريكس.

إن قيم ومصالح عالم المستقبل تختلف كثيراً عما عهدناه خلال القرون الثلاثة القادمة إذ يفرض هذا على النخب السورية خاصة، والعربية عامة، العمل على قراءة الحضارات الصينية والروسية، والهندية، واللاتينية، والإفريقية مع التركيز على البعد الثقافي- الحضاري الذي لم يعد أنغلو ساكسونياً أو أوروبياً، كما يتطلب ذلك أيضاً إعادة الاهتمام بالتراث العربي، وفلاسفته، ومفكريه بإبراز عظمة هذا التراث، ومساهمته العالمية، والقول للأجيال الجديدة الصاعدة صحيح أن اللغات والثقافة الأوروبية مهمة، لكن التركيز على ثقافات وحضارات القوى الصاعدة والبازغة يبدو لي مهماً للغاية بدءاً من محيطنا القريب إيران، وتركيا وانتهاء بالصين، والهند، وروسيا، والقارة الأميركية اللاتينية وإفريقيا، وكلها حضارات نتقاطع معها في القيم والمصالح، متجاوزين أخطاء الغرب القاتلة المتمثلة بالتقليل من شأن الآخرين، أو إرساء عقلية الكراهية والصراع بدلاً من عقلية التعاون والتكامل والتفاهم، باستثناء كيان الاحتلال الصهيوني الذي هو آخر كيان فصل عنصري يجب أن يزول ويفكك لأنه لا ينسجم مع ما يطرح لعالم المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن