لا يبدو أن زخم الاحتجاجات والتظاهرات التي شهدتها الأراضي المحتلة وبالتحديد داخل الكيان المغتصب آخذ بالتراجع أو التوقف خلال الأيام القادمة والمرحلة المقبلة، بل على العكس من ذلك فإن كل المعطيات تفيد بأن حالة الغليان والغضب لدى المستوطنين ستزداد ولاسيما في ظل استمرار اليمين المتطرف بتنفيذ أجنداته من خلال تحكمه بإدارة مفاصل الحكومة الحالية.
إذ ومع إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عزمه على تأجيل مناقشة التعديلات القضائية في الكنيست للدورة المقبلة، لم يلق هذا الإعلان استحساناً مطلقاً من المتظاهرين والأحزاب المعارضة له ولحكومته، وخاصة أن التأجيل هو محدد بفترة زمنية، وهو ما يعني أن نتنياهو وائتلافه الحاكم لم يلغوا هدفهم في إحداث التعديلات القضائية التي من خلالها يمكن للحكومة أن تفرض ما ترتأيه من سياسات من دون رقيب أو سلطة عليا تحد من هيمنتها السلطوية، بل سعوا لتأجيله في محاولة منهم لكسب الوقت من جانب، وتخفيف حدة المظاهرات التي وصلت وأحاطت بمنزل نتنياهو قبل أن يتم نقله لمقر الشاباك، لتمضية الفترة القادمة وما يتخللها من مناسبات وأعياد خاصة باليهود من دون اضطرابات تؤثر على الوضعين الاقتصادي والسياسي، إلى جانب مسعى حكومة نتنياهو لتقديم نفسها للغرب بأنها ليست متطرفة وهي تسمع لمطالب المحتجين.
هذا الواقع من التصعيد والفوضى الداخلية في الكيان المحتل وما يرافقهما من انعكاسات سياسية وأمنية ونكسة للاقتصاد، يضعنا أمام جملة من الحقائق التعبيرية عن طبيعة هذا الكيان المغتصب وطبيعة العلاقات والتجاذبات الحاصلة داخله وغير ذلك من دلائل يمكن الاستشهاد بها، وتتجلى في:
أولاً- وصول اليمين المتطرف وبصورة خاصة الأحزاب الدينية للسلطة في داخل الكيان سيلغي بالمطلق فكرة الديمقراطية وأي محاولة لمناقشة وجود دستور، وهي إحدى الإشكاليات التي برزت منذ السنوات الأولى لهذا الكيان، وكان رئيس الحكومة الصهيوني الأول بن غوريون هو أكثر من تخوف من حدوثها ولاسيما بعد ممارسة الضغوط عليه من هذه الأحزاب مطلع الخمسينيات من القرن الماضي لحصولها على امتيازات تفضيلية على باقي المستوطنين.
ثانياً- ما حصل من تأجيل مناقشة التعديلات القضائية لم يكن دون مقابل، إذ قدم نتنياهو للقوى اليمينية المتطرفة الشريكة معه في الحكومة تعهداً بتشكيل ما يسمى «الحرس الوطني» الذي يسعى إيتمار بن غفير لتأسيسه وإدارته عبر وزارة الأمن القومي التي يتولاها، لتكون عصاه العسكرية والأمنية الضاربة ضد الفلسطينيين والعرب وحتى ضد المستوطنين بشكل غير رسمي، وهو ما يظهر الطبيعة الابتزازية لهذا الكيان ليس فيما يتعلق بعلاقاته مع الخارج، بل حتى في طبيعة التجاذبات والمقايضات التي تشهدها حياته السياسية.
ثالثاً- إقرار نتنياهو الذي بات أشبه بالبيدق بيد اليمين المتطرف للحفاظ على منصبه الرسمي وحصانته التي تعفيه من المحاسبة القضائية، بأن هناك انقساماً يزداد في صفوف الإسرائيليين، وهذه حقيقة أكدتها كل النخب السياسية والعسكرية والفكرية الإسرائيلية، ولكن في حال التعنت بتأجيل مناقشة هذه التعديلات لما بعد الأعياد واستمرار اليمين بفرض أجنداته، سيدفع التقديرات تتجه نحو احتمالية لا يمكن تغافلها وقد تحصل لأول مرة داخل الكيان، وهذه الحتمية تتمثل في إقدام جيش الاحتلال على إحداث انقلاب بالشراكة مع الائتلاف المعارض نتنياهو، وهو ما قد يدخل إسرائيل في احتدام مؤكد بين الجماعات المتدينة المتطرفة وبين الجيش والأمن، إذ تشير التقديرات أنه قبل إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت من منصبه لرفضه لهذه التعديلات، فإن نسبة السخط داخل صفوف جيش الاحتلال ارتفع إلى 45 بالمئة مما كانت عليه سابقاً وخاصة لدى الضباط الكبار أصحاب الخبرات والمناصب الحساسة، ومما يؤكد هذه الاحتمالية مخاوف نتنياهو من تدهور الأوضاع داخل هذه المؤسسة الحساسة التي تعتبر شريان الوجود للكيان، وخاصة بعد نشر وسائل الإعلام معلومات تفيد عن توقف العشرات من الطيارين بالقيام بتدريباتهم ورفضهم العودة لثكناتهم وتقديمهم لتقاريرهم، ومسارعة جنود الاحتياط من الوحدة 8200 بتوقيع عريضة لرفض أداء الخدمة العسكرية بالتزامن مع التحذير الذي أطلقه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هليفي لنتنياهو من المخاطر الكامنة في عصيان الأوامر العسكرية في الجيش على خلفية التغييرات القضائية.
رابعاً- صحيح أن هناك حالات عنف وتطرف ظهرت في مسار الاحتجاجات داخل الكيان، لكننا لم نلحظ استخدام قوة مفرطة أو إطلاقاً للنار المباشر على المتظاهرين، وهذا لا يعني أن هذا الكيان ديمقراطي ويخشى على حياة المستوطنين، بل لأن أي استخدام للقوة في داخل الكيان سيكون شرارة لمواجهة عنفية دموية مفتوحة، والسبب في ذلك هو انتشار السلاح بكثافة بين المستوطنين وإلزامهم بالخضوع للخدمة الإلزامية، وتعدد قومياتهم ومرجعياتهم العرقية، وامتلاكهم أكثر من جنسية، ما يتيح التدخل والضغط من حكومات خارجية على حكومة نتنياهو والتلويح بوقف المساعدات المقدمة لحكومته، فضلاً عن احتمالية استثمار ذلك من الزنوج اليهود أو ما يعرف باليهود الفلاشا للانتقام من السياسات العنصرية التي مارسها نتنياهو وحكوماته على مر عقود سابقة بحقهم.
خامساً- من أبرز السيناريوهات المحتملة إلى جانب حصول انقسام داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية واستمرار التظاهرات، هو تفاقم الخلاف داخل حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، وهو ما قد يجعل نواة الخلاف تتعمق وتجعل نتنياهو أمام عدة جبهات من المواجهة.
سادساً- لعل أبرز المتابعين لهذه التطورات والأحداث الدراماتيكية فصائل المقاومة وخاصة حزب الله، إذ إن هذا الواقع المتصدع في البنية الديمغرافية الإسرائيلية واستنزاف المقدرات الأمنية والعسكرية، يشكلان أحد المسارات التي يمكن للفصائل المقاومة عموماً ولحزب اللـه بصورة خاصة من استثمارها في إدارة الحرب النفسية مع هذا الكيان، فضلاً عن اكتساب بعض الثغرات التي تتيح لهم من استثمارها على الصعيدين السياسي والأمني في إدارة الصراع مع هذا الكيان بالمرحلة المقبلة، والمستقبل كفيل بإيضاحها.