صراع الروايات
القاهرة – فارس رياض الجيرودي
نشرت مجلة التايم الأميركية عام 1991 مقالا مهماً للارا مارلو تحدثت فيه عن مهمة أميركية أوكلت لدول الخليج العربية عقب حرب الخليج الثانية، تتعلق باستثمار جزء من فوائض البترودولار التي تجنيها في بناء منظومة إعلامية جديدة تعيد من خلالها تأطير الرأي العام العربي، الذي أظهر تعاطفاً مع العراق خلال مجريات تلك الحرب، متأثراً بعدة عوامل أحدها الميزانية المالية الضخمة التي كان يخصصها النظام العراقي السابق للإنفاق على وسائل الإعلام العربية في فترة الثمانينيات.
لقد كان مقال مارلو إيذاناً بدخول المشهد الإعلامي والثقافي في العالم العربي مرحلة جديدة يسود فيها عصر الرواية الواحدة عما يجري في المنطقة من صراعات، تلك الرواية التي تناسب الولايات المتحدة الأميركية وإستراتيجياتها في المنطقة وتلائم أمن حلفائها، ومن هنا تكتسب سلسلة الخطابات التي يلقيها الأمين العام لحزب اللـه اليوم وفي هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها المنطقة أهميتها الخاصة، فهي تقدم رواية أخرى تختلف عن تلك التي اقتحمت الوعي الجمعي العربي واحتلته عنوة بالتدريج بدءاً من عام 1991، والتي أراد مروجوها أن يصوروا صراعات المنطقة على أنها صراعات ملل واثنيات، مستبعدين الصراع الأساسي الذي تفتعل الصراعات الأخرى للتغطية عليه، أي صراع الأمة مع العدو الصهيوني، ومتجاوزين التحدي الحقيقي الذي يواجه شعوب المنطقة أي تحدي بناء أمنها القومي وتحرير سياساتها واقتصادها وحضارتها وثقافتها من السيطرة والهيمنة الاستعمارية الغربية.
يعيد السيد نصر اللـه في سلسلة الخطابات التي يلقيها تصحيح البوصلة من خلال وضع المآسي التي تواجهها الشعوب العربية في سياقها الطبيعي، أي سياق المواجهة مع العدوان الخارجي على المنطقة والذي تشكل إسرائيل رأس حربته، وهو في خطابه الأخير مثلاً وضع الخطر الحالي الذي تواجهه شعوب المنطقة مع الجماعات الإرهابية في مكانه ضمن سلسلة المشاريع الغربية التي لا تتورع عن العبث بالعقائد الدينية واستغلال الجماعات التكفيرية المتطرفة وتسخيرها لخدمة مصالحها الاستعمارية، واعتبر السيد محقاً أن الأمة تواجه خطر نكبة جديدة أخطر من الأولى، على اعتبار أن الاختراق هذه المرة وصل لصلب الثقافة والدين العربيين.
لا يمتلك السيد نصر اللـه بالتأكيد لا هو ولا المحور الذي ينتمي إليه ما يوازي الإمكانات الإعلامية الضخمة التي يمتلكها المحور المقابل، لكنه يتميز بمصداقية خاصة تنطلق من موقعه في الصراع مع إسرائيل، وهو الصراع الذي تستشعر شعوب المنطقة بفطرتها أن مصيرها متعلق به، لذلك يستنفر المحور المقابل كل ما يمتلكه من طاقات إعلامية للرد على خطابه ليس عبر مناقشة عقلانية لما يطرحه، بل عبر محاولة تهشيم صورة السيد نصر الله، مستخدماً الغرائز ولاعباً على العصبيات، ومستنفراً مقدمات نشرات الأخبار وافتتاحيات الصحف لتأدية تلك المهمة، لكنه وخلال ذلك لا يدرك أنه يضع روايته تحت المجهر، ويعرضها للتدقيق أكثر، وهي بطبيعتها رواية هشة تستمد قوتها من عدم وجود بديل منها، لذلك لا تحتاج أكثر من أن تتعرض للنقد والتشكيك حتى تفقد قيمتها تدريجياً مع سير الأحداث وتطور الصراع الذي سيؤدي حتماً لمزيد من انكشاف الحقائق، ما دام محور المقاومة صامداً ومتمسكاً بمواجهة ما يهدد أمن الأمة فعلاً أي الخطران الصهيوني والتكفيري.