قراءة أولية في الأحداث الجارية مؤخراً
عبد المنعم علي عيسى
منذ عدة أشهر بدأت آراء ومواقف تتردد في ردهات وأروقة الأقبية السعودية والقطرية المعنية بالحرب على سورية، كانت تلك الآراء التي كان ينشرها إعلاميون سعوديون هنا وهناك بموجب توكيل سياسي أعطي لهم من دوائر القرار السياسي المعنية، تقوم على أفكار جديدة مفادها أن الحاجة اليوم باتت أكثر من ملحة لفتح صفحة جديدة مع التنظيمات الإرهابية العاملة على الأرض السورية (وكذلك في اليمن فقد أضحى تنظيم القاعدة الحليف الوحيد الباقي لقوات التحالف السعودي بعيد انطلاق عملية عاصفة الحزم 25/3/2015).
تنبع تلك الحالة الملحة الأخيرة من قناعة باتت راسخة في ذهنية القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية المسلحة ومفادها أنه من غير الجائز الرهان على أي قوة مسلحة خارج إطار التنظيمات السلفية الجهادية التكفيرية إذا ما أردنا إسقاط النظام السوري، ولربما جاءت تلك القناعة من الدليل النظري الذي وضعه باراك أوباما في 20/6/2014 حين نعى الأوهام القديمة التي تقوم على إمكان انتصار المعارضة السورية «المعتدلة» على النظام السوري في مؤشر قد يُفهم (وقد فهم) على أنه دعوة لتوجهات أخرى خارج ذلك الإطار السابق.
أعلن في يوم 25/3/2015 عن تأسيس «جيش الفتح» الذي يقوم في أساسه على تنظيم جبهة النصرة وحركة أحرار الشام بدعم سعودي مفتوح وآخر تركي قطري يمتلك الجغرافيا التي تجعله قادراً على تقديم دعم لوجستي ذي طيف واسع بل قابل للاتساع أيضاً إذا ما اقتضت الضرورة ذلك.
ما كان لما جرى في جسر الشغور 25/4/2015 أن يجري لولا اتساع ذلك الطيف الداعم الذي جعل الجيش السوري في مواجهة تقنيات «الناتو» مضافاً إليها أقصى ما وصلت إليه الوهابية في عملية غسل الأدمغة التي تمثلت في المقاتلين «الانغماسيين» والمقاتل الانغماسي هو مقاتل سوبر يقاتل بأسلحته الفردية حتى نفاد ذخيرته ليتحول بعدها إلى مقاتل انتحاري فيفجر نفسه. بعدما انطلقت العمليات العسكرية في إدلب لم يكن من الصعب على أي متابع أن يدرك أن هناك غرفة عمليات مشتركة جاثمة على الأراضي التركية أو على مقربة من الحدود السورية، تقوم بإدارة العمليات العسكرية بدءاً من التنسيق بإدخال آلاف المقاتلين (تقول مصادر المعارضة إنهم كانوا عشرة آلاف جاؤوا من العمق التركي) مروراً بتحليل صور الأقمار الصناعية اللحظية التي تنبئ بالتبدلات الجارية في الميدان والتي يمكنها تحديد مواطن الضعف أو الثغرات التي يمكن استغلالها وصولاً إلى استخدام أجهزة التشويش الأميركية بهدف شل عمليات الاتصال بين القيادة العسكرية للجيش السوري وما بين مقاتليها على الأرض.
توافق ذلك الدعم كله بآخر سعودي اندفع مؤخراً إلى تقديم أسلحة متطورة إلى حد التخمة وبوفرة عالية دلت عليها مؤشرات عديدة كتلك التي أفضت (مثلاً) إلى إطلاق صاروخ أميركي متطور يزيد ثمنه على ثلاثين ألف دولار على حاجز فيه رشاش دوشكا لا يزيد ثمنه على ألفي دولار، وآخر (صاروخ من نفس النوع) يطلق على دراجة نارية واقفة لم يكن يركبها أحد.
ما حدث في إدلب وفي جسر الشغور يندرج في مخطط قديم متجدد يهدف إلى السيطرة على منطقة جغرافية تخلو من وجود الجيش السوري وتمتد من أقصى الجنوب السوري في القنيطرة ودرعا مروراً بحماة ثم إدلب فدير الزور والرقة في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، حيث من الممكن لها أن تكون منطقة حظر جوي لاحقاً بذريعة حماية المعارضة السورية «المعتدلة» إذا ما نضجت الظروف لتلك الفكرة على الرغم من استبعادها نهائياً من الحسابات السياسية الأميركية لاعتبارات تتعلق بموازين القوى الإقليمية في المنطقة، بما فيها أرجحية الدور التركي إذا ما قيض له تحقيق تلك الفكرة واقعاً على الأرض، وثقلاً يمكن أن يؤدي إلى فرض شروط محددة على أي طاولة مفاوضات يمكن لها أن تعقد، وأقربها كما يبدو جنيف3 حيث من المقرر عقده كما يقال أواخر الصيف المقبل، و(جنيف3) من الممكن له أن يحظى بظروف دولية أفضل من تلك التي كانت سائدة في جنيف1 (30/6/2012) وجنيف 2 «20- 1- 2014»، فقد أبطلت العنجهية الأميركية مفعول الأول وأطاحت الأزمة الأوكرانية بالثاني.
تلعب تركيا اليوم دوراً خفياً يقوم على تحريك أفرع القاعدة عبر الاستخبارات التركية بمساعدة نظراء لها إقليميين باتوا محفوظين عن ظهر قلب، وهي على استعداد للتورط بشكل مباشر (تحت غطاء المعارضة السورية) مرات ومرات إن اقتضى الأمر- وهو غالباً ما يقتضي- حيث تشير العمليات العسكرية الجارية في إدلب وجسر الشغور والتي تم الإعلان عن قياداتها التي كانت تضم عبد الله المحيسني (سعودي) وعبد المنعم زين الدين (سوري) وأمير مسلم (شيشاني)، كانت تلك القيادات دلالة دامغة على تورط تركي مباشر إذ إن تورط تلك الخفافيش الثلاثة الأخيرة كانت له سابقة أخرى في الهجوم على كسب آذار 2014 بدعم تركي مباشر أيضاً.
من المتوقع أن يتصاعد ذلك الدور التركي عما قريب على خلفية مؤشرات عديدة تراكمت مؤخراً حول استحالة قيام (عاصفة حزم) سورية كانت الرياض تسعى إلى تحقيقها، وما دعوتها إلى تشكيل القوة العربية المشتركة إلا خطوة أولى في ذلك المسعى بينما جاءت التصريحات الصادرة عن القاهرة مؤخراً (25/4/2015) بأن لا عاصفة حزم سورية وبأن الرئيس الأسد هو جزء مهم من التسوية السياسية في سورية، مخيبة للآمال السعودية، وعليه فقد أدى ذلك إلى قيام (تفاهم) تركي سعودي اتخذ من القيام بـ(عاصفة حزم) بأيد سورية وتقنيات غربية إستراتيجية له في المرحلة المقبلة.
تقف الولايات المتحدة الأميركية موقف الحائر، وإذا ما صحّ التعبير فإنها تقف في مربع رمادي لم تستطع الخروج منه إلى الآن، وهو ما يتبدى اليوم في سعيها المتعثر إلى إقامة توازن إقليمي يبدو صعباً جداً في لحظة استقطاب قصوى نادرة الحدوث في المنطقة، وهي (واشنطن) تدرك أن حربها على الإرهاب باتت اليوم أكثر صعوبة من ذي قبل في ضوء تمرّد حلفائها الإقليميين المنضوين تحت لواء قيادتها في التحالف الذي انشأته في أيلول 2014 لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، هذا التعثر (الأميركي) يجعل من القبضة الأميركية على السعودية (وعلى الخليج عموماً) ضعيفة في قضايا من هذا النوع خصوصاً في ظل غليان خليجي نابع من تقارب أميركي- إيراني يهدد بأن يطيح بكل تلك «المحظيات» الأميركية ليعقب اسمها مفردة أخرى هي «السابقة» كدلالة على زوال تلك الصفة عنها حالياً وفي المراحل القادمة.
تبدو اللعبة السعودية- التركية اليوم أشبه بالمقامرة بل في الذروة من هذه الأخيرة التي تعني المقامرة بكامل الرصيد (Sold) بينما التوجس هو العلاقة الفارقة التي تطبع المواقف الأردنية والإماراتية والكويتية، لترقى هذه الحالة الأخيرة (التوجس) إلى حالة هلع حقيقي مصرية جراء دعم الرياض (وأنقرة) لقوى تكفيرية تمثل- علاوة على أنها مصنفة على لوائح الإرهاب العالمية والأميركية، تهديداً مباشراً لأنها قبل أي أحد آخر، وهو (التهديد) يتضاعف عدة مرات في الحالة المصرية في ظل بقاء سيناء جرحاً مفتوحاً من الممكن له أن يتسع ويتسع إذا ما أخطأت (ولا تبدو أنها فاعلة) القاهرة في حساباتها مرة أخرى من جديد.
كان الموقف الباكستاني متفرداً وقوياً غلّبت فيه إسلام آباد صوت العقل والحكمة على أي أصوات أخرى نفطية أم بنكنوتية أم مذهبية، وفي الآن ذاته كان هذا الموقف مدركاً لمخاطر الانجرار إلى ما تسعى إليه الرياض فقرّر الانكفاء، الأمر الذي أحدث شرخاً عميقاً في العلاقات الباكستانية- السعودية من الصعب له أن يردم وقد دلّت عليه مؤشرات عديدة لعل أهمها قيام الرياض بزيادة اعتمادها على الهند (خصوصاً في القدرات البحرية) في الوقت الذي تمثل فيه هذه الأخيرة العدو التقليدي الأول للباكستان والتي يمثل التواصل معها استفزازاً لا يمكن أن يغتفر تحت أي ظرف كان على الرغم من واقعية السياسات الباكستانية.
في العام 1943 احتلت القوات الألمانية 90% من مدينة ستالينغراد وبينما تحصن المدافعون في العشرة بالمئة الباقية من مساحتها، إلا أن أولئك (المدافعين) ما لانت عزيمتهم وما انفكوا يرسلون موظف بريدهم لينقل الأخبار من موقع إلى آخر، إلى أن انقلبت خريطة السيطرة العسكرية بأكثر من رأس على عقب كما يقال لتخرج القوات الغازية في نهاية تلك المعركة إلى خارج الحدود السوفياتية لها، وليوثق أبناؤها- ويرووا لنا- لاحقاً تلك التجربة التي «سقوا الفولاذ» فيها.