قضايا وآراء

هل من الممكن إجبار الأميركيين على مغادرة سورية؟

| عبد المنعم علي عيسى

ظُهر يوم الخميس 23 آذار المنصرم كانت «قاعدة خراب الجير» المحتلة بريف اليعربية شمال شرق مدينة الحسكة على موعد مع هجوم مزدوج جرى بطائرة مسيرة قبيل أن يجري استهداف القاعدة برشقات عدة من الصواريخ، والهجوم أسفر عن «مقتل متعاقد أميركي وإصابة خمسة جنود آخرين» وفقاً لبيان كان قد أصدره «البنتاغون» في أعقاب ذلك الاستهداف.

قد يكون الحدث ليس بجديد بل ويصح وصفه بالمعتاد في الآونة الأخيرة، أقله منذ حزيران 2021 الذي شهد الاستهداف الأول للوجود العسكري الأميركي في سورية، لكنه يبدو مختلفاً عن نظائره التي بلغت في غضون المرحلة الفاصلة ما بين هذا التاريخ الأخير ويوم الخميس قبل الماضي 77، قبيل أن يضيف هذا الأخير واحدة عليها، أما أوجه الاختلاف فهي عديدة، عدا عن كون الاستهداف الأخير قد أسقط للمرة الأولى قتيلاً أميركياً سيكون لسقوطه أثر يشبه الدوائر التي يرسمها حجر حين وقوعها في مسطح مائي، خصوصاً إذا ما كان هذا الأخير من النوع الراكد، أول أوجه الاختلاف، وأبرزها، هو أن فعل الاستهداف هنا وجد جهة معينة تتبناه بالاسم، بل وتصدر بياناً تتحمل فيه مسؤوليتها عنه، فقد أصدر فصيل أطلق على نفسه «لواء الغالبون» بياناً قال فيه: «تمكن فوج الطائرات المسيرة التابع للمقاومة الإسلامية، لواء الغالبون، من استهداف مطار الرميلان في سورية الذي تحتله القوات الأميركية بطائرة مسيرة يوم الخميس 22 آذار في الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت بغداد»، قبيل أن يتعهد مصدرو البيان بأن العملية «سوف يتبعها عمليات أخرى»، ومن الواضح هنا أن الطائرة المسيرة كانت قد انطلقت من الأراضي العراقية التي تمثل قاعدة دعم لوجستي للقوات الأميركية الموجودة على الأراضي السورية لا بديل عنها على الإطلاق، ولهذا حساباته الهامة فأن «تهتز» طرقات الدعم سيعني حتماً «اهتزاز» الوجود وصولاً إلى إمكان التفكير بالخروج من تلك الحالة، الأمر الذي جرى التفكير فيه جدياً زمن الرئيس السابق دونالد ترامب عندما أصدر قراراً بانسحاب قواته من سورية عام 2018 قبيل أن يتمكن جنرالات «البنتاغون» من إعطابه، ثم جرت مؤخراً محاولة في الكونغرس لاستصدار قرار يلزم الرئيس جو بايدن بسحب قواته من سورية وإن لم يكتب لها النجاح، وهذا في مطلق الأحوال يعني أن الجدل الداخلي حول ذلك الوجود لا يزال مستمراً، وتغير موازينه سيكون مرتبطاً بتغير الوقائع والمعطيات على الأرض، ومنها، أي من أوجه الاختلاف آنفة الذكر، أن السياقات التي جرى فيه فعل الاستهداف يشير بدرجة قاطعة إلى وجود تنسيق روسي – إيراني الأمر الذي يشير إليه إعلان واشنطن عن «اختراق الطائرات الروسية لأكثر من 20 مرة الأجواء فوق قاعدة التنف» ما عنى بالنسبة للأخيرة «انتهاكاً للاتفاق بين البلدين»، أي روسيا والولايات المتحدة، على الرغم من أن اتفاقاً كهذا غير معلن، وإن كان وجوده مؤكداً بفعل الضرورات التي تفرضها عوامل عدة أبرزها ضرورة تحاشي الصدام بين الطرفين على الأراضي السورية، وهذا التنسيق، الإيراني الروسي، يهدف ولا شك للضغط على القوات الأميركية وإجبارها على اتخاذ قرار بالانسحاب من مناطق تواجدها في شمال البلاد وشمالها الشرقي.

يشير السلوك الذي مارسته قوات الاحتلال بالاشتراك مع «قوات سورية الديمقراطية – قسد» ما بعد استهداف قاعدة «خراب الجير»، التي تقع تحت سيطرة هذه الأخيرة وتعتبر مسؤولة عن أمن القوات الأميركية المتواجدة فيها، إلى ارتباك ناجم بالضرورة عن المفاجأة، حيث تقول المعطيات إن المحيط «آمن»، وإن أقرب نقطة مقاومة تقع في شمال دير الزور ببعد يصل لمسافة 200 كم، وهذا يعني أن التقديرات كانت تقول إن حدثاً من هذا النوع من المستحيل له أن يقع، وإذا ما وقع فهو يشير إلى وضع كارثي بالمعنى العسكري، فإن تستطيع طائرة مسيرة قطع كل تلك المسافة من دون أن يعترضها أحد أمر له دلالاته بهذا المعنى الأخير، والارتباك إياه ظهر في حملة الاعتقالات التي جرت في صفوف المدنيين بمحيط القاعدة بـ«تهمة تسريب معلومات عن تحركات القاعدة»، وفقاً لبيان صادر عن «قسد» في أعقاب تلك الحملة، ثم أعقبها تحليق كثيف للطيران الأميركي في أجواء مدينتي الحسكة ودير الزور.

هذه السياقات تشير إلى وجود مناخ عام «مناهض» للوجود العسكري الأميركي الرابض عنوة على الأراضي السورية منذ نحو عشر سنوات، والشاهد هو أن دائرة «المناهضين» تتسع بعد أن باتت الساحة العراقية مسرحاً محتملاً للتصعيد ضد ذلك الوجود، وأهم ما في الأمر أن الساحة التي مثلت على الدوام مركز إسناد للقوات الأميركية يمكن أن تصبح أيضاً مركز إسناد على الدرجة نفسها لـ«المقاومة الشعبية» في الجزيرة السورية، وذاك أمر لوحده كفيل بـ«اضطراب حبل» الإسناد الأول لمصلحة شد عرى نظيره الثاني، وفي مطلق الأحوال فإن المناخات المحيطة بأي صراع سياسي – عسكري، مما يمثله الوجود الأميركي في سورية، تصبح شديدة التأثير فيه بدرجة تعادل، إن لم تكن تفوق أحياناً، موازين القوى القائمة، وإذا ما شهدت تلك المناخات تصعيداً من شأنه أن يرجح كفة «تكاليف» البقاء على كفة «المكاسب» من هذا الأخير، عندها سوف تتعالى أصوات المطالبين بالانسحاب في الداخل الأميركي، ولعل هذا الأخير ظهرت ملامحه الأولى عبر تقرير لموقع «آنتي وور» الأميركي الذي يمثل منبراً لـ«وول ستريت» شارع المال والأعمال بنيويورك، الذي قال فيه: «أسهل طريقة مجانية لحماية القوات الأميركية الموجودة في سورية هي الشروع بإعادتها إلى أميركا فوراً».

نحن هنا لا نقول إن رأي «آنتي وور» هو الذي سيكون راجحاً فتأخذ به دوائر صنع القرار في واشنطن، لكن مشهد جثمان «المتعاقد» الأميركي الملفوف بـ«العلم الوطني» إذا ما تكرر وتكرر فلسوف يكون من حق «آنتي وور» أن يدعي بأنه أطلق صرخة مبكرة ولم تلق آذاناً صاغية لدى أحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن