سلسلة من التحولات السياسية والدبلوماسية غير المسبوقة تشهدها المنطقة وسورية على وجه الخصوص، تلك التحولات تنبئ بحدوث متغيرات جذرية إيجابية في المشهد الجيوسياسي، الذي كان سائداً منذ العام 2011 المتزامن مع اندلاع الأحداث في سورية، وما تلاها من تجميد لعضوية سورية في جامعة الدول العربية، وصولاً إلى المقاطعة العربية للدولة السورية.
إضافة إلى استمرار الهزات الارتدادية التي أحدثها اتفاق بكين بين السعودية وإيران، كان واضحاً أن المنطقة وخريطة التحالفات فيها قد تغيرت، فبعد الزيارة الرسمية للرئيس بشار الأسد إلى موسكو، والتي أعادت رسم خريطة الدبلوماسية السورية على أسس ملاقاة المتغيرات القادمة، جاءت زيارته الرسمية الثانية إلى أبو ظبي، معلنة عن فتح صفحة جديدة من التعاطي الإيجابي بين العرب وسورية الدولة.
الاتصال الهاتفي بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس السوري بشار الأسد، لم يقتصر على تقديم التعازي بضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب سورية، إنما الاتصال كان بمنزلة كسر للمحظورات المفروضة أميركياً على الدول الحليفة، بوقف التقارب مع سورية.
تأتي زيارة وزير الخارجية السورية فيصل المقداد إلى القاهرة، في وقت أدرك فيه العرب أهمية الدور السوري، الذي يشكل الرافعة السياسية في إعادة التوازن الإقليمي، من خلال دمجها ومشاركتها في رسم السياسات الإقليمية.
زيارة المقداد إلى القاهرة، تثبت بأن زيارة وزير خارجية مصر سامح شكري إلى دمشق عقب الزلزال المدمر، لم تكن زيارة تعاطف وحسب كما روج البعض، بيد أنها كانت للإعلان عن موقف سياسي مصري علني ومؤيد لسورية، ومع زيارة المقداد إلى القاهرة واجتماعه المغلق مع سامح شكري، تأكد ذاك النمط من التنسيق السياسي والعسكري بين البلدين، وأماط اللثام عن دعم مصري صريح للدولة السورية والذي بدوره يمهد الطريق لعودة قوية وفاعلة للدور السوري في المنطقة.
إلى ذلك تشهد المملكة العربية السعودية تغيراً ملحوظاً في مقاربتها للملفات الداخلية والإقليمية والدولية، كذلك في تحالفاتها التي كانت متبعة منذ معاهدة كوينسي العام 1945، فالمملكة العربية السعودية في عهدة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان شهدت نمطاً جديداً من الانفتاح الداخلي، المترافق مع طموح متسارع نحو التطور التكنولوجي والصناعي والسياحي، إضافة إلى سعيها للعب دور أكثر توازناً في المنطقة.
مما لا شك فيه أن اتفاق السعودية وإيران بضمانة الصين، أحدث زلزالاً سياسياً سنبقى نشعر بارتداداته الإيجابية في المنطقة أقله في المدى الإستراتيجي، فالبعض وصف الاتفاق بأنه تم بموافقة أميركا، والبعض قال إن أميركا ستعمل على إفشال الاتفاق، أما البعض الآخر فقد وصف اتفاق بكين بأنه موجه ضد أميركا التي حالت دونه وقامت بتسعير الخلافات بين البلدين لمصلحتها لعقود من الزمن.
لكن القراءة الصحيحة للموقف السعودي الجديد، تأتي من خلال دراسة سعودية معمقة تتناسب ومصالحها، من دون أن تأخذ طرفاً مع أميركا أو ضدها، فالمؤشـر علــى ذلك رفض السعودية في «أوبك بلس» طلباً أميركياً بزيــادة الإنتــاج النفطــي، ليــس لمســايرة روســيا بل لأن الطلب الأميركي باختصار لا يتناسب ومصالح السعودية.
إن السعودية وعقب إتمام اتفاق بكين مع إيران، أبرمت صفقة مع شركة بوينغ الأميركية بقيمة 67 مليار دولار، لشراء أسطول جديد من الطائرات المدنية لشركة الرياض الناقل الجوي الرسمي للسعودية، وما لبثت شركة أرامكو السعودية، أن وقعت مع الصين اتفاقاً بقيمة 12.2 مليار دولار لبناء مصفاة ومجمع للبتروكيماويات، كما أن السعودية أعلنت عن انضمامها إلى منظمة شانغهاي للتعاون بصفة شريك محاور وبقيادة الصين، بيد أن السعودية ورغبة منها في ترجمة سياساتها الجديدة القائمة على توازن المصالح، قدمت لأوكرانيا مبلغ 400 مليون دولار لإعادة الإعمار فيها، أي إن الرسالة السعودية الموجهة لأميركا، هي انتهاء زمن التحالفات العمياء، وأن زمن تمويل السعودية للتنظيمات الإرهابية، التي تدار أميركياً، من أجل تنفيذ أجندة التخريب الأميركي في دول المنطقة، على حساب أمن وسمعة ومصلحة السعودية، قد ولى إلى غير رجعة.
ولكي نفهم تلك المتغيرات الإقليمية والدولية الحاصلة، نشير إلى ما صرح به وزير الخارجية الهندي جاي شنكر في أكثر من لقاء، حدد فيه معالم النظام العالمي الجديد، أو «المتغيرات» التي طرأت على النظام العالمي، كما يحلو له الوصف، هذه المتغيرات استجاب لها العديد من الدول سريعاً، ومنها المملكة العربية السعودية ودول الخليج وجمهورية مصر والهند، وبشكل تحافظ فيه تلك الدول على علاقتها بالولايات المتحدة وأوروبا، لكنها لا تقف وراءها، ويضيف قائلاً: «على أوروبا وأميركا أن يتوقفا عن التفكير بعقلية توهمهما أن مشكلاتهما هي مشكلات العالم».
إن الصعود الاقتصادي لدول تعتبر من خارج المحور الغربي الأميركي، فرض واقعاً سياسياً جديداً ومختلفاً تماماً، وخصوصاً بعدما أصبح الاقتصاد هو الذي يستقطب التكتل الفاعل وليس العكس، وما القرار السعودي بشراء الديزل الروسي بأسعار منخفضة، وإعادة بيعه إلى أوروبا لتحقيق أرباح طائلة رغم العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا، إضافة إلى القرار المشترك بين السعودية والكويت والإمارات بخفض الإنتاج البترولي طواعية، تغيير يأتي ضمن هذا السياق المبني على تحالف المصالح، وليس على تحالفات التبعية، ومن هنا يمكننا فهم المتغيرات الإقليمية والدولية الحاصلة.
السعودية في حلّة جديدة قائمة على تصفير المشاكل الإقليمية، والالتفات نحو تطوير الداخل وتدعيم المصالحة مع إيران، من خلال موقف خليحي وعربي مشترك وداعم، ولا نبالغ إذا قلنا إن السعودية اليوم، باتت بحاجة ماسة إلى مشاركة الدبلوماسية السورية ومواكبتها الفاعلة في مسار جديد للملفات الإقليمية والدولية، من خلال شخص رئيس الجمهورية العربية السورية بشار الأسد، الذي استبق كل ذلك وصرح من موسكو قائلاً: إن العلاقة الإستراتيحية بين إيران وسورية لم تعد مشكلة أو عائقاً بين سورية والدول العربية، فهذا الأمر تخطيناه ولم نعد نسمع به.
إن من يعاين حجم الدمار في سورية جراء الحرب المستمرة بأشكالها المتعددة منذ 2011، يدرك أن حرباً عالمية كانت تدور رحاها على الأرض السورية بهدف إسقاطها وإسقاط المنطقة معها، أما اليوم وبعد التبدل الحاصل والاندفاعة العربية الملحوظة نحو سورية، لخطب ودها ودعوتها رسمياً إلى حضور القمة العربية المزمع انعقادها في الرياض، فهذا ليس إلا إقراراً بصمودها واعترافاً بدورها الكفيل بتعديل الموازين الإقليمية، وبتأمين المظلة للمصالح العربية، ولا غلو بالقول إن إخفاق المؤامرة الكونية ومنع سقوط سورية، رغم الضغوط الدولية، والعقوبات الأميركية الجائرة، وبقاءها دولة محورية رائدة في الدفاع عن القضايا العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية، إلا كرامة من الله.