اقتصاد

مت.. قاعد يا مسكين!

| د. سعـد بساطة

كـل المنشآت: إنتاجية/ خدمية تفخر بمزاياها (رأسمال كبير؛ أسواق واسعـة؛ آليات متطورة)؛ ولكن الميزة الأهم هي الموارد البشرية؛ فهم وراء نهوضها وتطورها وتوسعـها؛ وهذه لا تتكوّن بمحض المصادفة؛ بل بجهود حثيثة بانتقاء العـناصر الكفوءة الواعـدة؛ وتدريبها؛ وبعـد عـمر طويل «تقاعـدها»!

ارتأت الدول – لأسباب تتعـلـّق بالصحة الجسمية والنفسية – أن ينهي المرء حياة العـمل؛ وحددّت لذلك سناً معـيـّنة – تختلف من مهنة لأخرى؛ ومن دولة لأخرى-.

ولربما هذا ما يقيم الدنيا ويقعـدها بفرنسا؛ حيث إنّ الحكومة حاولت «تمرير» قانون رفع سن التقاعـد من 62 إلى 64؛ فعـمّ الشغـب وانتشرت المظاهرات! حيث هم في الغـرب ينتظرون التقاعـد للتمتع بالهوايات والسفر؛ أما هنا فنعـتبره نهاية الحياة (خاصة إذا كان المتقاعـد يتمتع بوظيفة فيها سطوة وسلطة). ولا ننسى القول المصري العـامي ممجـّداً الوظيفة العـامة «إذا فاتك الميري اتمرّغ بترابو».

وأمام جلسة صاخبة للجمعية الوطنية، دافعت رئيسة الوزراء الفرنسية عن الخطة الحكومية قائلة: «لا يمكن أن نجازف بمستقبل معاشاتنا، وهذه الإصلاحات ضرورية». ولما اعتلت المنصة، أخذ غـالب الأعضاء يرددون النشيد الوطني رافعـين بأيديهم لافتات مكتوب عليها «لا لـ 64». وتعرضت رئيسة الوزراء للمقاطعة في أثناء حديثها بصيحات تطالبها بالاستقالة.

ويرى البعض أنّ فرْض مشروع القانون يضع البلاد على صفيح ساخن.

يقول شقيقي ((اختصاصي أمراض قلبية)) إنّ المتقاعـد معـرّض للاحتشاءات القلبية الخطيرة في أول ثلاثة أشهر بعـد تقاعـده (لاسيما أنه يصبح بنظر نفسه – وفي الكثير من المجتمعـات المتخلفة – عضواً خاملاً في المجتمع)؛ أما إذا تجاوز تلك الفترة بسلام؛ فسيضحي في الجانب الأمين.

ببلادنا سن التقاعـد 60 عاماً؛ ويمكن التمديد بشروط حتى 65؛ وببعـض المهن (استشاري؛ أستاذ جامعـي؛ قاض..) يجوز الاستمرار حتى 75 عـاماً!

نأخذ أرقاماً رسمية حديثة من المغـرب لكون عدد المتقاعدين هناك يبلغ 3 ملايين شخص، وإنّ من المرتقب أن يصل العدد بحلول سنة 2030 إلى ربع سكان البلاد. يمكن معرفة المتقاعد إما من جلوسه المتكرر في المقاهي، وإما ملازمته المسجد، وإما لعبه الورق برفقة زملائه المتقاعدين، وإما ذهابه إلى الصيد برفقة جيرانه، لكنّه أيضاً يحاول أن يعود إلى العمل بعد التقاعد، من خلال أبواب أخرى، في العديد من الأحيان.

التقاعد مرحلة أخرى من مراحل الحياة، ولا بد لأي موظف من الوصول إليها، والمنطق والواقع أن التقاعد راحة من عناء العمل العام وضغوطاته لسنوات عديدة، وانتهاء المعارك والمؤامرات، وخلاص من عداوات ومناكفات يخلقها العمل والتنافس على المناصب!

ولكن يجب ألا ننسى أنّ المتقاعدين هم ثروة وطنية، فهم كفاءات علمية وخبرات مهنية، ولكن المشكلة هنا تكمن في عدم وجود آلية لاستثمار هذه الكفاءات الناضجة، ما يجعلها تتحول إلى بطالة مقنعة وأيدٍ غير عاملة وعقول غير مستغلة وطاقات مهدورة، وبذلك تخسر الدولة التكاليف التي أنفقتها في إعداد هذه الكوادر لسنوات عديدة، وكذلك خسارة الإنتاجية المستقبلية المعتبرة الماهرة التي ما زال يتقنها المتقاعدون، وخسارة الخبرات العالية النقية المثمرة في تدريب وإعداد الجيل الجديد للاستمرار في البناء المتواصل وتحسين المؤسسات والتقدم والتطور ورفع المستوى لمقدرات الدولة في المجالات المختلفة.

يجب أن تضع الدولة والمتقاعد نفسه «خطة مسبقة» للتأهيل لدخول هذه المرحلة الجديدة.

من الطريف؛ أنّ المتقاعـد يهديــه زملاؤه في حفلة وداعية؛ – بغـالب الأحيان- ساعـة يد في الوقت الذي لا يعـود الوقت يعـني له شيئاً!

ويعـرّفون التقاعـد بشكل ضاحك؛ أنه يشفي المتقاعـد من مشكلات العـمل؛ ولكنه يتسبـّب للزوجة بمشاكل عصيبة.

لا يغـيبـّن عـن أذهاننا أنّ منظمة الجايكا» اليابانية؛ تقدم العـون التقاني لدول العـالم؛ وقوامها فريق عـمل من المتقاعـدين بمهارات مختلفة؛ فضلوا أن يجوبوا العـالم بدلاً أن يستسلموا للسكينة والدعـة في بيوتهم.

وتقوم هولندا ببرنامج مثيل؛ ولطالما استفادت المنشآت الصناعـية السورية – عـبر غـرف الصناعـة لدينا- من خبرات هؤلاء؛ وبكلف زهيدة في مجالات (الصباغ- اللدائن- البيئة- الجودة.. الخ).

ختاماً؛ لن أسترسل.. فيجب أن يدرك المتقاعـد أنـّه تقاعـد من العـمل؛ لا من الحياة!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن