مثّل الائتلاف الذي قامت عليه حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة تركيبة هي الأكثر تطرفاً، والأكثر عنصرية، من بين التركيبات التي حكمت بها أي وزارة سابقة منذ أن انغرس ذلك الكيان في النسيج المتعب للمنطقة في أيار من عام 1948، الأمر الذي كان «يبشر» بحقول ألغام مرجحة للانفجار في أي لحظة، وهذه وإن كانت ذات تأثيرات داخلية بالدرجة الأولى إلا أن شرارها قد يتسع ليطول المحيط الذي شكل على الدوام ساحة «تنفيس» لحكومات الاحتلال تستخدمها كلما بلغ الاحتقان حداً من الصعب تفريغه بأدوات داخلية، وفي غضون مرحلة الأشهر القليلة من عمر تلك الحكومة كان من الواضح أن «اليمين» المتطرف ومعه «أتباع التلمود» الذين يغرفون من «الأساطير» بدرجة أكبر من الحقائق لبناء أيديولوجياتهم، ثم سياساتهم، يزدادون عدداً وقوة، الأمر الذي يهدد بحدة الانقسامين، الأفقي والعمودي، في «المجتمع» الإسرائيلي الذي يعاني أصلا من تناقضات بنيوية عدة تغوص في تركيبته، والفعل، أي زيادة الأثر المتولد عن تبني الأساطير، سوف يكون من شأنه تعميق التناقض، القائم أصلاً، بين تركيبة عسكرية – تكنولوجية متطورة، ونظيرة لها ثقافية – مجتمعية تبدو متخلفة بل تميل أيضاً للسير نحو منحدرات لا قيعان لها في هذا الاتجاه الأخير.
عاش «المجتمع» الإسرائيلي ليلة الأحد- الإثنين 25- 26 آذار الماضي ليلة عصيبة على وقع إصرار الائتلاف الحكومي على المضي قدماً في مشروع «التعديلات القضائية» التي وصفتها العديد من الصحف، وكذا التيارات والأحزاب، على أنها تمثل «انقلاباً يطول إحدى أهم ركائز المجتمع»، وهو ما دفع بشرائح المؤيدين لهذي الأخيرة نحو تأجيج احتجاجاتهم التي وصلت ذروتها في الليلة الآنفة الذكر، وفي السياق بدا أن تلك الاحتجاجات مهيأة للتصاعد بشكل ينذر بدخول «الكيان» في مرحلة شلل سوف يحتاج التعافي منها إلى وقت غير معلوم، ناهيك عن أنها تنذر أيضاً باحتمال وقوع صدامات أعنف من تلك التي حدثت بما يهدد فعلاً، أو هو يمثل الشرارة لاندلاع «حرب أهلية» على وقع تراكمات عدة كان من الواضح أنها قد تنفجر في ظل انتهاج الحكومة نهج التصعيد خياراً للهروب من الاستحقاقات المتعددة في شتى الاتجاهات، ولربما يعكس الفعل ميلاً عند «الذات الجمعية» اليهودية بتبني ذلك النهج لأنه يوقظ فيها إحساساً يفضي من حيث النتيجة إلى دوام حالة «التحفز» التي تمثل هنا ضمانة للوجود أو البقاء في ظل محيط مضطرب يرى فيها كياناً يعتاش على أزماته.
يشير السلوك الذي انتهجه رئيس حكومة الاحتلال في مواجهة الأزمة إلى هشاشة التوازنات القائمة في «المجتمع» الإسرائيلي وكذا إلى هشاشة سطحه السياسي الممثل بالائتلاف الذي يقوده، فهو وإن أعلن تراجعه عن «التعديلات القضائية» لكنه وعد مناصريه بأن يكون التراجع «مؤقتاً» لحين فراغ الشارع من شحناته، الأمر الذي يمكن تلمسه من خلال التصريحات التي أطلقها وزير الأمن إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموترتش، في أعقاب ذلك التراجع والتي قال فيها الاثنان، كل على حدة، إنهما حصلا على وعود بتمرير التعديلات مع بدء الدورة الصيفية لـ«الكنيست» التي ستبدأ بعد عطلة هذا الأخير الشتوية 30 نيسان الجاري، والفعل وإن نجح في سحب الشرارة من فتيل الشارع لكنه لم يستطع أن يفعل كذلك من أوساط الكتل التي تعارض «المساس بالتوازنات التي بني عليها المجتمع» وفقاً لتقرير نشرته جريدة «يديعوت احرونوت»، حتى إن محرر الشؤون العسكرية فيها قال: «حان الوقت لأن يبلغ نتنياهو الجمهور الإسرائيلي ليس فقط عن صحته الجسدية، ولكن أيضاً عن حالته العقلية، بما في ذلك الحبوب التي يتناولها، ومن حق المواطنين أن يعرفوا تحت تأثير ماذا يقع رئيس حكومتهم»، وهذا يعني أن ملف الأزمة لم يطوَ، لكنه تأجل إلى حين تمايز المواقف الذي من المنتظر له أن يحدث مطلع حزيران المقبل.
الأزمة التي يمر بها كيان الاحتلال غير مسبوقة، ولا يمكن النظر إلى التظاهرات التي اجتاحت الكيان قبل أيام على أنها احتجاجات فقط على «التعديلات القضائية» التي تنوي حكومة نتنياهو تمريرها على الرغم من أهمية فعل كهذا بالنسبة لمجتمع نضجت طبقاته حيث استقرت العلاقة بينها، ما يعني أن «التعديل» سوف يكون مخلاً بتلك التوازنات وخصوصاً إذا ما كانت الدوافع تطول «الشخصي» و«الفئوي» الأمر الذي أشارت العديد من التيارات والأحزاب إليهما على أنهما يقعان على رأس الدوافع الكامنة وراء تلك التعديلات، حتى إن زعيمة حزب «العمل» المعارض ميراف ميخائيلي وصفت خطاب نتنياهو الذي احتوى تراجعه عن مشروعه بأنه «مليء بالأكاذيب والتحريض، ويجب ألا نقع في فخه»، وأضافت إن ما فعله هذا الأخير لا يعدو أن يكون «حقنة تحت الجلد» يريد من خلالها شراء الوقت «للإيغال في مشروع السيطرة على مؤسسات الدولة وإحكام قبضته عليها»، والراجح أن توصيف ميخائيلي دقيق لأنه يتقاطع مع مشروع «يهودية» الدولة الذي بات دعاته هم ركائز حكومته الأخيرة.
كنتيجة يمكن القول إن مشروع «يهودية» الدولة وملحقاته، التي من بينها مشروع «التعديلات القضائية»، قد أحدث خللاً في علاقات الكيان الخارجية التي تلعب الدور الأكبر في استمراره، لكن تأثيراته الأمضى، كما تشير احتجاجات 25 – 26 آذار، ستكون في الداخل كما يبدو، وإذا ما كان التراجع قد نجح في نزع مؤقت لشرارة الانفجار فإن العودة عنه، أي عن التراجع الذي سيحصل حتما صيف هذا العام، سيقود نحو مزيد من الاشتعال ما دام «الكرم» بات مليئاً بحطب لا يحتاج إلى الكثير من الشرار.
قد تستحق عقدة «الثمانية عقود» التي طرحها العديد من منظّري الكيان، وكذا العديد من ساسته، الكثير ما يدور حولها وتستحق أيضاً الكثير مما سيدور.