شهد الكيان الإسرائيلي مؤخراً ظاهرة لم يعتد حصولها منذ زرعه ككتلة سرطانية في المنطقة على إثر تفجر الأزمة الداخلية الناجمة عن التعديلات القضائية التي يتمسك ائتلاف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على تمريرها رغم كل الرفض الرسمي وغير الرسمي الذي يشهده هذا الكيان، وتتمثل الظاهرة التي يراد الإشارة لها في صلب هذا المقال بالخطوات التصعيدية والانقسام والتمرد الذي شهده جيش الاحتلال الإسرائيلي على مختلف المستويات التراتبية التي يضمها من جنود وصف ضباط وضباط، من الملزمين والاحتياطات، ومن كل الاختصاصات العسكرية.
هذه التطورات التي تمثلت في وقف التدريبات والالتزام بالأوامر من قبل جنود الاحتياط ولاسيما ما يعرف بالفرقة 8200 احتياط، ورفض بعض الطيارين الالتحاق بتدريباتهم وجولاتهم الاستطلاعية الاعتيادية وتقديم التقارير اليومية إلى جانب ارتفاع نسبة التسرب والتهرب داخل الخدمة واتخاذ نتنياهو قراراً يتضمن إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت من منصبه نتيجة معارضته الشديدة لتمرير هذه التعديلات القضائية، ومن ثم التراجع عنه، باتت توحي لدى البعض أن جيش الاحتلال على شفا الانقسام والتفتت والصراع الداخلي، وحتى إن بعض التقديرات الإسرائيلية على مستوى مراكز الدراسات والبحوث ووسائل الإعلام وحتى الجنرالات السابقين زادت مخاوفهم من أن تؤدي هذه التطورات إلى إحدى السيناريوهات أو جميعها:
أولاً- صراع داخلي ضمن المؤسسة العسكرية يؤدي إلى انقسام بين صفوفه.
ثانياً- ازدياد حالة الفوضى من التسرب والتخلف عن الخدمة.
ثالثاً- تراجع المقدرات الجهوزية والقتالية لجيش الاحتلال الإسرائيلي والخشية من خلق ثغرات تستفيد منها حركات المقاومة في فلسطين ولبنان.
هذه التخوفات بطبيعة الحالة يوجد العديد من الدعائم والمؤشرات التي تدعمها، ولكن مع وجود ملاحظة وعامل مؤثر لا يمكن التغافل عنه، يتجلى في أن وجود الكيان الإسرائيلي مرتبط بوجود جيشه، ووجود الجيش لا يرتبط فقط بالداخل الإسرائيلي، بل إنه مرتبط بالحاجة والدعم والإشراف الأميركي على هذا الجيش، ولتدعيم ذلك سنورد العديد من الأمثلة التي تؤكد ذلك:
1- جيش الاحتلال الإسرائيلي تأسس بعد أسبوعين من الإعلان عن قيام ما يسمى بدولة إسرائيل، وفي أوج الحرب بين إسرائيل والجيوش العربية، حيث صدر أمر تأسيسه بتاريخ في 26 أيار 1948 بقرار بريطاني، وكان القرار واضحاً وقاطعا بوجوب عدم وجود جيش آخر في إسرائيل سوى الجيش الإسرائيلي، وإثر ذلك الأمر تم دمج كل العصابات الصهيونية من «هاغانا» و«الأرغوان» ومجموعة «شتيرن» إلى جانب الفرقة العسكرية اليهودية التي قاتلت إلى جانب بريطانيا بداية الحرب العالمية الثانية.
وهذا يعني أن قرار إنشاء الجيش الإسرائيلي بداية الأمر لم يكن قراراً صهيونياً لأن الصهيونية المتطرفة كانت تعتمد على عمل العصابات المنظم لتحقيق الهدف اليهودي، ومقابل إنشاء هذا الجيش تركت بريطانيا كل إمكاناتها وقدراتها وأسلحتها لخدمة تسليح هذا الجيش.
2. ظل ديفيد بن غوريون أسيراً لفكرة ضرورة خلق تحالفات بين إسرائيل وإحدى القوى العظمى في كل المجالات وخاصة العسكرية منها، وكان ذلك نتيجة طبيعية لكونها جسماً دخيلاً على المنطقة، ومن هنا لم يكن أمامها إلا الارتباط العضوي كأي كائن طفيلي بجسم آخر قوي كي يستمد منه أسباب الأمن والاستمرار، لذلك تم الاعتماد بداية على نفوذ المملكة المتحدة في المنطقة، واستمرت إسرائيل في تبني تلك العقيدة، حتى كان العدوان الثلاثي عام 1956، إذ اعتمدت على كل من فرنسا وإنجلترا، وأصبحت فرنسا بعد ذلك هي المورد الرئيسي للسلاح لإسرائيل، إلى أن اتجهت إلى إعادة بناء علاقاتها ومصالحها المشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية التي قدمت لها كل دعم سياسي وعسكري واقتصادي، ما دفع القادة الصهاينة لطرح إستراتيجيات تتطلب مساندة ودعم غربي، كطرح شيمون بيريز لفكرته الداعية إلى «قوة الردع» الإسرائيلية، عقب حرب 1956.
3- ربط هيئة الأركان الإسرائيلية ومناوراتها بمناورات الجيش الأميركي، والتعاون الأميركي الذي افضى لتشكيل الاستخبارات العسكرية في العام 1977، وإدخال التعديلات عديدة على الجيش الإسرائيلي وتقسيماته منذ عام 1967 حتى عام 2002، كما أن الولايات المتحدة الأميركية أشرفت على إحداث 11 قاعدة جوية في الأراضي المحتلة.
4- في 15 كانون الثاني 2021، قامت وزارة الدفاع الأميركية بإجراء تغيير في «خطة القيادة الموحدة» يقضي بنقل إسرائيل من منطقة عمليات «القيادة الأميركية الأوروبية- يوكوم» إلى منطقة عمليات «القيادة المركزية الأميركية- سينتكوم».
5- بلغ حجم المساعدات العسكرية الأميركية المتراكمة لجيش الاحتلال الإسرائيلي ما قيمته 250 مليار دولار منذ عام 2000م، كما خصصت أميركا ضمن ميزانيتها لعام 2023 ما قيمته 3.75 مليار دولار للمساعدات العسكرية الإسرائيلية.
من النقاط البارزة التي تؤكد حرص الولايات المتحدة الأميركية على بقاء تماسك جيش الاحتلال إلى جانب الجسور الجوية التي قدمتها له منذ عام 1967 وما تلاها، هو أن قرار إقالة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت كان مجرد قرار لفظي دون إصدار قرار مكتوب من حكومة نتنياهو لأنها لا تملك القرار الكامل والمطلق في ذلك.
وعلى أي حال ما يحصل اليوم من فوضى في جيش الاحتلال هو إيجابي لمصلحة محور المقاومة، فإلى جانب قضايا الفساد والاغتصاب والعنصرية، بات اليوم هذا الجيش يمر بتصدعات، إن لم تدفعه نحو الانهيار، فهي تصيبه بندوب وتصدعات عميقة يمكن استغلالها من قبل المقاومة في جولات الصراع القادمة.