من يقرأ وثيقة العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، سيجد أن موسكو قد أصبحت تتحدث بلغة مكشوفة وواضحة وعلنية، ولم تعد عبارة «شركائنا الغربيين» التي كانت تزعج الكثيرين، واردة في قاموس المسؤولين الروس، إلا من باب التهكم، أو الأدب الراقي في زمن التفاهة هذا، ذلك أن هذه الوثيقة التي صدرت في الـ31 من شهر آذار الفائت، ترافق صدورها مع زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو، وعبارته الشهيرة على أبواب الكرملين «إننا أمام تحولات لم تحدث منذ مئة عام»، ويجب أن نكون سوياً، وبالطبع فإن عقيدة السياسة الخارجية الروسية تشير بوضوح إلى ما يلي:
1- إن الولايات المتحدة هي المصدر الرئيس للسياسة المعادية لروسيا، والمخاطر على أمنها، والسلام الدولي القائم على التوازن والتنمية العادلة للبشرية.
2- من المهم جداً لروسيا التعميق الشامل للعلاقات، والتنسيق مع مراكز القوى العالمية السيادية الصديقة، وهي الصين والهند.
3- تعتزم روسيا إعطاء الأولوية للقضاء على بقايا هيمنة الولايات المتحدة وغيرها من الدول غير الصديقة على الشؤون العالمية، بهدف المساعدة على تكييف النظام العالمي مع حقائق عالم متعدد الأقطاب.
4- توفير الأمن لجميع البلدان على أساس المعاملة بالمثل، وستسعى روسيا لضمان الأمن لجميع الدول على قدم المساواة.
5- ستعمل روسيا على الحد من فرص الدول غير الصديقة في إساءة استخدام احتكارها، أو مركزها المهيمن في مجالات معينة من الاقتصاد العالمي، كما ستساعد في توسيع مشاركة الدول النامية في الإدارة الاقتصادية العالمية.
6- يمكن لروسيا استخدام القوات المسلحة لصد ومنع الهجمات عليها وعلى حلفائها.
وعلى الرغم من هذه النزعة الهجومية المحقة خاصة بعد انكشاف مشروع الغرب الجماعي ضد الأمن القومي الروسي على خلفية ما جرى ويجري في أوكرانيا، وفي محيط روسيا الحيوي، فإن موسكو تركت الباب موارباً بالإشارة إلى أنها لا تعتبر نفسها عدواً للغرب، ولا تعزل نفسها عنه، وليس لديها نيات عدائية تجاهه، وتعول على إدراك الغرب لعدم جدوى المواجهة مع روسيا، وقبول حقيقة تعددية الأقطاب، والعودة بمرور الوقت إلى التفاعل على أساس مبادئ المساواة في السيادة واحترام المصالح.
7- إرساء مفهوم العالم الروسي، واعتبار الفضاء السوفييتي السابق من البلطيق لآسيا الوسطى، مجال نفوذ حيوي لروسيا، وكان لافتاً التأكيد على مواجهة قيم النيوليبرالية الزائفة التي تؤدي لفقدان المبادئ الأخلاقية.
8- المهم أيضاً أن الوثيقة أشارت للتعاون الشامل، القائم على الثقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعلى الدعم الشامل للجمهورية العربية السورية، وتعميق الشراكة متعددة الجوانب ذات المنفعة المتبادلة مع تركيا والسعودية ومصر، وغيرها من الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي بناءً على درجة سيادتها، ومواقفها البناءة في سياساتها تجاه روسيا الاتحادية.
9- العمل على مفهوم الأمن الجماعي وتوحيد الإمكانات وتخفيف النزاعات، وتعزيز الحوار من أجل شراكة أورو- آسيوية.
إذا راجعنا هذه البنود جميعها فسوف نجد أنها تتحدث عن الشراكة بدلاً من الهيمنة، وعن الأمن الجماعي، والحوار، وتخفيف النزاعات، ووضع الإمكانات الاقتصادية لشراكة أورو- آسيوية، كما لابد من لفت «الانتباه» الإشارة للدعم الشامل للجمهورية العربية السورية، وشراكة متعددة الجوانب مع دول مثل تركيا، السعودية، ومصر وغيرها، ومن هنا يمكن التقدير أن الصين تلاقي هذه الجهود الروسية بالعمل على المصالحة الإيرانية السعودية، في حين أن موسكو تعمل على المصالحة بين سورية وتركيا ضمن إطار هذه الرؤية الجديدة، ولكن موسكو المنخرطة في الصراع لكسر الأحادية القطبية تراقب ما يجري في تركيا على أنه أمر يمس أمنها القومي، ومصالحها الحيوية لقناعتها أن الصراع على تركيا هو بيضة قبانٍ في صراعها مع الغرب الجماعي منذ محاولة الانقلاب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تموز 2016 حيث:
1- بدأ الرئيس التركي بالعمل مع موسكو في العديد من المشاريع الإستراتيجية: معركة حلب، الانخراط بمسار أستانا الذي حاولت واشنطن قطعه باغتيال السفير الروسي في أنقرة في كانون الأول 2016، على يد أحد المتطرفين المنتمين لجماعة فتح اللـه غولين المقيم في الولايات المتحدة بحماية أميركية.
2- انخرطت تركيا مع روسيا في ملفات عديدة منها ملفات الطاقة، والحبوب، بعد الحرب الأوكرانية، وأعطت موسكو لأنقرة محطة نووية للطاقة، وصواريخ «إس 400»، كما شكلت تركيا بوابة مهمة لروسيا للهروب من العقوبات الغربية عليها، إضافة لحجم المصالح الاقتصادية الكبيرة، والتي تجاوزت مليارات الدولارات.
3- لم تنقطع الاتصالات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأردوغان، إذ بلغت بالعشرات هاتفياً، علاوة على اللقاءات المباشرة، وهو ما دفع بوتين للإشادة به علناً، الأمر الذي دفع الدول الغربية للبدء بمهاجمته شخصياً بشكل واضح.
4- تبدو موسكو قلقة من مواقف المعارضة التركية بزعامة كمال كيلتجدار أوغلو لأسباب كثيرة، منها:
* وضوح اتجاهاتها الأطلسية والغربية، وإشارتها إلى أن العلاقات مع روسيا ستعود إلى طبيعتها الرسمية، وضمن إطار المؤسسات الحكومية من دون أي حماس لها، وهو ما ورد بوضوح شديد في الوثيقة المشتركة لطاولة الست.
* الدور الفاضح للسفير الأميركي في أنقرة، وتدخله المباشر لمصلحة المعارضة التركية، وتقديم الدعم الإعلامي، والمعنوي، وقد يكون المادي لها.
* لم يلتقِ أي من أطراف المعارضة التركية بأطراف روسية أو صينية، أو إيرانية، سوى على مستوى منخفض، في حين أن سفراء وموفدي الدول الغربية يصولون ويجولون هناك.
* تخشى موسكو من أن وصول المعارضة التركية سيجعل من عملية اتخاذ القرار صعبة في الكثير من المسائل مع حكومة ائتلافية، وتعدد لمراكز القوى، والخلافات الواضحة بين أطرافها، ما يجعل الكثير من الأمور تتعقد، وتزداد قدرة الأطراف الغربية على التأثير والعرقلة، وهو أمر خطير في ظل احتدام الصراع مع الغرب الجماعي.
5- أن مجمل الملاحظات السابقة وغيرها الكثير تدفع موسكو، وأيضاً طهران للتعجيل في مسار المصالحة السورية التركية لتقديم أوراق أكثر لأردوغان قبيل هذا الاستحقاق الانتخابي الخطير، والذي ستبنى عليه الكثير من القضايا، ليس فقط بين سورية وتركيا، وإنما ضمن إطار الرؤية الشاملة للمنطقة كما أشرنا لها في وثيقة السياسة الخارجية الروسية.
هذا كله يدفع الرأي العام والنُخب السورية لطرح مجموعة من التساؤلات من الضروري التطرق لها، ومنها:
1- هل مصلحتنا تتطابق تماماً مع الرؤية الروسية؟
2- هل هناك من يضمن أردوغان إذا فاز في الانتخابات ألا يتنصل من وعوده؟
3- أي الخيارات أفضل لنا في ضوء ما عرضته سابقاً؟
الحقيقة أن من حق الناس أن تسأل، ولكن من حقها أيضاً أن تطمئن من أن الأمور ستسير نحو الانفراج، وضمن هذه المعطيات سأحاول الإجابة باختصار عن هذه الأسئلة الصعبة:
1- بالإجمال هناك تطابق واتفاق بيننا وبين موسكو فيما يتعلق بالرؤية الإستراتيجية، وبالعمل على نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب جرى الحديث عنه منذ لقاء الرئيس بشار الأسد مع بوتين عام 2005، وكان الرئيس الأسد خلال زيارته الأخيرة لموسكو قد أوضح ذلك من أن العلاقة بين الرئيسين تقوم على الود والصراحة والشفافية، لكن نقطة التباين البادية هنا هو عدم الثقة بالرئيس التركي، والحاجة لضمانات لسورية بانسحاب الجيش التركي، والترتيبات المستقبلية الأمنية والسياسية، وهنا ترى موسكو أن هناك حاجة لدعم أردوغان في الانتخابات القادمة، لأن هذه الانتخابات لم تعد شأناً داخلياً تركياً، بل جزء من الصراع مع الغرب الجماعي، إضافة إلى أن المعارضة التركية خيار خاسر، وبالمقابل ترى دمشق أنها ليست مستعدة لتقديم هدايا انتخابية لأحد، لكن الحل الوسط سار باتجاه لقاء نواب وزراء الخارجية لوضع أجندة منتجة وواضحة ذات مخرجات، وإذا كان لابد من حل وسط يرضي موسكو، فقد يكون هناك لقاء بين وزراء الخارجية بعد تقييم لقاء موسكو الرباعي الأخير.
أحد صناع السياسة الروسية قال لي قبل فترة في لقاء داخلي: نحن لدينا ضمانات على أعلى مستوى بانسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية، والأمر يعود لكم في سورية أن تثقوا بهذه الوعود أو لا تثقوا!
2- بالنسبة لضمان أردوغان، حقيقة لا أحد يضمن، لكن هناك متغيرات عديدة قد تساعد منها:
• ملف اللاجئين الذي تحول لعبء كبير.
• الحاجات الاقتصادية التي ازدادت بعد الزلزال.
• الجغرافيا التي لم يستطع إيجاد حل لها، وأي انفتاح على الخليج سيحتاج حكماً للبوابة السورية.
• نهاية المشروع الذي تبناه أردوغان، وسقوطه.
• الانفتاح العربي على سورية، وهذا عامل داعم لها.
• التحولات الإقليمية والدولية التي يقرؤها الأتراك كغيرهم.
• مراجعة الأتراك، وخاصة المؤسستين العسكرية والأمنية لخلاصة التورط التركي في سورية، وأخذ دروس مهمة بأن السياسة القديمة سقطت، ولابد من مقاربة جديدة.
3- النقطة الأخيرة: أي الخيارات أفضل لنا؟ هنا نحن نختار بين السيئ والأسوأ، وإذا كان أردوغان قد يراه كثيرون خياراً سيئاً لأنه أحد المتسببين بما حدث لسورية وشعبها، فإن المعارضة التركية أسوأ من ناحيتين:
• هي قادمة من أجل إطلاق سراح عملاء أميركا من جماعة غولين من السجون، وإعادتهم إلى وظائفهم.
• منح كرد تركيا حكماً ذاتياً حسب ما وعد زعيم المعارضة التركية حزب الشعوب الديمقراطي بهدف كسب أصواتهم في الانتخابات، وإذا طبق ذلك في تركيا، سيطلب تطبيقه في سورية.
إذا قرأنا هذه المعطيات الصعبة كلها، والخيارات الدقيقة، قد ندرك لماذا تعمل موسكو على التقريب بين دمشق وأنقرة خلال هذه الفترة الحاسمة، والقضية باختصار أمن قومي روسي وسوري وإيراني وصيني، والباقي خلافات حول التكتيكات، وليس الإستراتيجيا، ودمشق تفهم وتدرك ذلك بعمق، ولكن ما تريده تحقيق المصالح الوطنية العليا للشعب السوري، مع استعدادها للحوار والانفتاح ضمن إطار رفض التدخل في الشؤون الداخلية، ومكافحة الإرهاب، والاحترام المتبادل، والمنافع والمصالح المشتركة.