تشير التقارير التي أحاطت باجتماع «الرباعية» في موسكو يومي 3 و4 نيسان الجاري إلى أن ذلك الاجتماع كان أشبه بطاولة مستديرة جمعت وفوداً كان لكل منها أجندته التي يسعى إلى تحقيقها، ومن خلال مسعاه ذاك قام كل منها بتقديم ما لديه من طروحات تمثل سقوف مطالبه، مع تسجيل نقطة لافتة في هذا السياق برزت من خلال طروحات الوفدين الروسي والإيراني، اللذين يلعبان دور الوسيط في ذلك الاجتماع، والتي كانت أقرب إلى «الأماني» منها إلى «الواقعية»، ولربما يمكن تلمس ذلك من خلال البيان الذي أصدرته الخارجية الروسية في نهاية الاجتماع والذي أكدت من خلاله على أن الأطراف «اتفقوا على مواصلة الاتصالات» وأن «الاجتماع المقبل سيكون على مستوى وزراء الخارجية» الأمر الذي قد يصعب حدوثه في توقيت «مفيد» كما يراد له، وما نقصده هنا بـ«المفيد» هو المرحلة التي تفصلنا عن 14 أيار الذي ستكون تركيا فيه على موعد مع انتخابات سعى أطرافها لتصويرها كمعركة «كسر عظم»، أو هم موقنون بأنها سترسم ملامح تركيا المستقبلية لعقود عدة، أو التي تفصلنا على أبعد تقدير، عن 28 أيار الذي سيشهد المرحلة الثانية من تلك الانتخابات حيث تشير أهم الاستطلاعات إلى أن أي من المرشحين الأربعة لن يستطيع حسم الفوز في الجولة الأولى آنفة الذكر.
واقع الأمر هو أن الظروف والمواقف التي أحاطت بالاجتماع آنف الذكر، لم تكن في جلها مساعدة لتحقيق اختراق وازن من النوع الذي يمكن البناء عليه، على الرغم من أن بعضها، عند الروس بالدرجة الأولى، كان يستمد زخمه من أن مجرد حدوث اللقاء سيكون إيجابياً انطلاقاً من معطيين اثنين، أولاهما أن الفعل سيساعد، أياً تكن النتائج التي سيفضي إليها، في جسر الهوة السحيقة التي ارتسمت من خلال التصريحات التي أطلقتها أنقرة ودمشق عشية الحديث عن ترتيبات تهدف إلى انعقاد ذلك الاجتماع، وثانيهما أن الفعل سيشكل قفزة جديدة على «مسار التطبيع» المأمول من شأنها أن تنقله من المستوى الأمني – العسكري إلى المستوى السياسي الذي لا يمكن لذلك المسار، من دونه، أن تسير العربة على سكتها الموصلة لمحطته، وعليه فقد بنت موسكو تصوراتها على أن «القفزة» مهما بلغ تواضعها فإنها تشكل «خطوة» مشجعة على طريق التطبيع التدريجي، والراجح هو أن تقديرات موسكو كانت تنظر إلى تلك الخطوة كضرورة في مسارها الذي ترمي من خلاله لتحقيق تسوية سياسية «جزئية» للأزمة السورية، من حيث إن وصول دمشق وأنقرة إلى تلاقيات محددة تضع أفقاً زمنياً للوجود العسكري التركي على الأراضي السورية وبضمانات روسية وإيرانية، أمر سيكون من شأنه أن يؤسس لجبهة عريضة وضاغطة على الوجود العسكري الأميركي في مناطق شرق الفرات.
يمكن لدمشق أن تكون قد راجعت حساباتها وسياساتها الرافضة لذلك الاجتماع انطلاقاً من التصورات الروسية آنفة الذكر، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، لكنها، أي دمشق، بقيت عند حذرها الذي ابتنته على معطيات عدة بعضها حاضر ولا يزال «طرياً» وبعضها الآخر يستمد مشروعيته من التاريخ التركي الذي بدأ مع العام 1923 عندما أعلن مصطفى كمال أتاتورك قطيعة ذلك التاريخ مع «الخلافة العثمانية»، فمذاك شهدت تركيا أربع نزعات إيديولوجية – سياسية جميعها وصلت إلى سدة السلطة في أنقرة، وهي من حيث النتيجة لم تتباين كثيراً في سياساتها التي انتهجتها تجاه محيطها العربي، وتحديداً منه السوري والعراقي، بل ظلت رؤاها وتصوراتها تتلون تبعا للظروف والمعطيات لكن «محركاتها» الأساسية ظلت عند إحياء «أمجاد بني عثمان»، والشاهد هو أن العديد من المحطات كانت تشير إلى عمل تلك «المحركات» بذلك الاتجاه، بدءاً من «الميثاق المللي» الذي أقر العام 1920 والذي يقوم على «حماية الأقليات التركية» المنتشرة على الأراضي العراقية والسورية، ومروراً بعملية «إتيلا» التي نفذها الجيش التركي العام 1974 في الشمال القبرصي، ثم وصولاً للتمدد الذي مارسته تركيا في الجمهوريات الإسلامية التي نجمت عن تفكك الاتحاد السوفييتي العام 1991 الفعل الذي شهد محطة صارخة عند اندلاع الصراع الأرميني – الأذربيجاني قبل نحو ثلاثة أعوام، وذاك كله كافٍ لتعويم سياسة تقوم على أن «لا مغالاة في الحذر» مع «جار» ما انفك، منذ بدء الأزمة السورية ربيع العام 2011 «ينتهك أحكام القانون الدولي، ويخالف مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، كما يتعارض مع علاقات حسن الجوار والمبادئ الناظمة للعلاقات السلمية بين الدول، وتتعارض سياساته مع كل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بسورية» وفقاً للخطاب الذي ألقاه نائب وزير الخارجية أيمن سوسان في اجتماع الرباعية 4 نيسان الجاري.
لكن من ناحية ثانية يمكن القول إن التأثير التركي في الأزمة السورية يتعدى في أبعاده الوجود العسكري في الشمال السوري وبعض مناطق الشرق، ولعودة العلاقة السورية- التركية بعد إستراتيجي هام من حيث إنه يشير إلى تحطم المشروع الأميركي الرامي إلى تفتيت المنطقة، وإذا ما كان إصرار دمشق على التمسك بثوابتها الأساسية الثلاثة، جدول زمني للانسحاب، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، التي أعلنتها منذ انطلقت فكرة التطبيع مطلع الصيف الماضي، أمر من الصعب التراجع فيه، لكن ذلك يجب أن يحدث عبر التفاوض الذي تحيط به مناخات مساعدة على درجة عالية من الأهمية، وإذا ما قدر لاجتماع وزراء خارجية البلدين أن يحصل، فإن من شأن ذلك أن يثقل الموقف التركي بأحمال إضافية لتلك التي ينوء تحتها بفعل عوامل داخلية وخارجية على حد سواء، ما يشير إلى لحظة «حرجة» قد يصح «الاستثمار» فيها، والراجح هو أن تركيا اليوم خصم ربما «تاب» عن خطاياه السورية لأنه أدرك أن «الغرب» لم يقرر بعد «التوبة» عن خطاياه تجاهه.