على مدى عقد من الزمن عمد الرئيس الصيني شي جين بينغ على شرح رؤاه لعالم جديد في نظمه الاقتصادية والثقافية والسياسية وفي محطات ومؤتمرات وكلمات عميقة ومدروسة وهادفة، ولكنّ الضوضاء التي يحدثها الغرب حول ما يجري بين ظهرانيه، حتى وإن كان حدثاً خاصاً بفئة محدودة جداً، حاولت أن تحجب الأضواء والاهتمام عمّا يتشكل في الشرق من قناعات ونظم تفكير وقيم تنتظر أن تغرس جذورها ليس في الشرق فقط، وإنما في ضمير الإنسان حيثما كان على سطح هذا الكوكب، أضف إلى ذلك الشعور بالخذلان العميق والمؤكّد الذي يشعر به ملايين الناس يومياً منذ الانسحاب المزري للولايات المتحدة من أفغانستان بما برهن أن كل القيم التي نسمع عنها في الإعلام ويطرب السياسيون الغربيون للتغنّي بها، لا مرتسمات لها على أرض الواقع، ولا قيمة لها حين يتعلّق الأمر بالمصالح العسكرية والمادية للغرب، كما أن الخذلان الذي شعر به كل عربي منتمٍ لعروبته من دعم الولايات المتحدة للجرائم الإسرائيلية البشعة المرتكبة يومياً بحق الشعب الفلسطيني يبرهن دائماً أن المنظومة القيمية الغربية لا تتجاوز الحدود اللفظية وأنها دعاية رخيصة لنظم سياسية متوحشة لا تؤمن بها أبداً ولا تقيم لها عند اللحظة الحاسمة وزناً.
نتيجة تجذّر هذه المفارقة بين تجاهل ما يحدث في الشرق من «حزام واحد طريق واحد» إلى كل العلاقات المتنامية في «منظمة شنغهاي» و«البريكس»، وبين ترويج أوهام غربية أثبتت ومنذ استقلال الولايات المتحدة عام 1776 عدم مصداقيتها، تفاجأ العالم بأن الصين هي التي رعت وأنتجت الاتفاق السعودي- الإيراني في بكين وهو يَعِد بتخفيف حدة التوتر بين الدول العربية وجيرانها وإنهاء حروب الغرب بالوكالة في المنطقة العربية وبداية حقبة جديدة من التعاون والتفاهم العربي والإقليمي ستنعكس من دون شك خيراً ونموّاً ورخاءً على أبناء المنطقة العربية وعلى علاقاتهم مع العالم، فالخلافات الإيرانية- الخليجية تمّت تغذيتها وتضخيمها وصبّ الزيت على نارها دائماً من العدوّ الصهيوني وحلفائه في الولايات المتحدة وأوروبا، وها نحن نرى اليوم بعد إبرام هذا الاتفاق وبعد لقاء وزيري خارجية البلدين في بكين مؤخراً وبعد ظهور بوادر حقيقية لإنهاء الحرب في اليمن، أن التواصل والتفاهم بين الدول العربية وجيرانها، ممكن جداً إذا ما حسنت النيات، وإذا ما كان الوسطاء راغبين بالفعل بإنجاز هذه المهمة وليس في توسيع هوّة الفرقة والشقاق كما عمد الغرب دائماً ومنذ أن كان له إمبراطوريات تتحكم بمصائر بلداننا وتنهب مواردها لمصلحة تطوير صناعاته ومراكمة ثرواته.
ولكنّ استمرار هذا المسار لن يؤثر فقط على مكانة الدولار الذي يقوم بدور خطير في فرض الحصار على الشعوب ونهب ثرواتها وبقاء الولايات المتحدة كقوة اقتصادية أولى في العالم، بل وكما يؤكد المتابعون لهذا الشأن أن هذا التأثير سيحدث حكماً بعد الاتفاقات بين روسيا والصين، وبين البرازيل والصين وروسيا وإيران والهند على تبادل الطاقة والسلع بالعملات المحلية، ولكن ارتدادات ما يجري ستكون أكبر بكثير مما نرى اليوم ونتوقع أو مما يمكن لنا أن نراه في هذه المرحلة المبكرة، ولكن كما قالت أوكتافيا بوتلر: فإن «افتراض أن ما لا نراه هو غير موجود افتراض مدمّر»، فلعلّ ما لا نراه اليوم وسط الاهتمام بالاقتصاد والقوة العسكرية هو أن المنظومة القيمية والثقافية للغرب على المحك وأن مصداقية الغرب بكلّ ما يقوله وما يعلنه وما يتحدث به دخلت تحت بند التساؤل والمساءلة اليوم من قبل كل من له عقل وقلب ومصلحة ويتابع مجريات الأحداث في العالم.
لن أستغرب أبداً إذا رأيت دولاً كثيرة في العالم تتبنّى مصادر شرقية للأخبار بدلاً من المصادر الغربية والتي شكّلت إلى حدّ اليوم إمبراطورية إعلامية تروّج لما يحلو لها من الأكاذيب، والمتابع اليوم يجد أن مصادر الأخبار الروسية والصينية واللاتينية تحظى بمتابعة غير مسبوقة مقارنة بمصادر الأخبار الغربية التي تركّز على أمور لا تعني المواطن خارج تلك الحلقة الضيقة وأثبتت أنها موجّهة من الساسة المتطرّفين الغربيين، وقد تتجاوز ردود الأفعال كلّ هذا لتتساءل عن النظام القيمي الذي أنتجه الغرب للمرأة والطفل والأسرة والمستقبل وكيف انعكس هذا النظام ربحاً غير محدود على أصحاب رؤوس الأموال، وشقاءً يومياً وعبودية حديثة لمعظم البشر لتأمين لقمة عيشهم، وهذا ينطبق أيضاً على مواطني الدول الغربية كما ينطبق على نظرائهم في دول العالم من إفريقيا إلى أستراليا ونيوزيلاندا.
ليس من الممكن أن نلخص في هذا المكان آثار الحروب المدمّرة التي شنّها الغرب وروّج لها خلال القرنين الماضيين وآثار الفتن والعقوبات على الشعوب ولكن يمكن لنا أن نستعرض وضع العالم بعد بدء الثورات الملوّنة التي اخترعتها وموّلتها ودعمتها المخابرات الغربية، ووضع دولنا نحن بعد كارثة ما سموه «الربيع العربي» ومنعكسات هذه الفتنة على استقرار وسلامة بلداننا وعلى لقمة عيش مواطنينا في كل أنحاء الوطن العربي.
اليوم ومع توفر بديل سياسي وأخلاقي وقيمي للسطوة الغربية ومع وجود شريك يؤمن بالحوار والتعاون بين الدول بدلاً من إثارة الفتن بينها وفي داخلها، ومع وجود شريك يقيم وزناً واحتراماً للثقافات الأصلية وللغة الشعوب وأساليبهم الحضارية المتوارثة، لا شكّ أن القلوب ستهفو إلى هذا الشريك وأن العقول ستدرك أين بالذات كان مصدر معاناتها وأرقها واستعبادها واستهلاك وقتها وعمرها لمصلحة حفنة من الإمبرياليين الجشعين الذين لا يفتؤون ولا يترددون في إحداث حروب القتل والدمار لشعوب بكاملها من أجل جني الأرباح وتأمين المزيد من مصادر الثروة.
في ضوء هذا التغيير الهائل والواعد في العالم من الضروري مراجعة كل الأساليب التي فُرضت على كثير من الدول والشعوب سواء بتجاهل لغتها الأم لمصلحة لغة المستعمِر أم إهمال أساليب وطرائق عيش مفيدة وصحية درج عليها الآباء والأجداد لمصلحة أساليب عيش أثبتت أنها مرضيّة وغير صحيّة، وفي السياق هذا استعادة الثقة بالنفس وبالانتماء وبالجذور مع الانفتاح التام على الاختلاف وتبادل المعارف والخبرات بعيداً عن العنصرية والهيمنة والاستكبار. وفي ضوء هذا التغيير نأمل أن تبدأ الدول التي كانت مستضعَفَة إلى أمد قريب بمقاطعة مصادر الثقافة الغربية المدمّرة للإنسان والأسرة، والعودة إلى المنطق الإنساني السليم والسليقة البشرية العفوية، والإيمان أن الحضارة الحقيقية هي حضارة الإنسان الحقيقي المرتبط بأرضه ودينه وانتمائه من دون تعصّب ومن دون غلّ بل بمحبة وتعاون وتعاضد مع أخيه الإنسان والبناء على الاختلافات وتقديرها كنعمة من نعم الله علينا حبانا بها لنتعلّم منها وليكون وجودنا أكثر ثراءً ومتعة.
ربما ما لا يمكن أن نراه اليوم، ولكني أفترضه، هو عالم تسوده القيم الحقيقية وعنوانه كرامة الإنسان والكرامة المتساوية للدول صغيرها وكبيرها وبناء نظام دولي جديد يعكس هذه المفاهيم الراقية ويعيد لصفة «حضاري» معناها الأصيل بعد نفض غبار الهيمنة الغربية والاحتلال والظلم عنها مرّة وإلى الأبد.