عبد الكريم الناعم: منذ سبعين اتجاهاً! … مشهدية شعرية عندما يتحول الورد إلى عوسج
| المحرر الثقافي
شاعر من الشعراء الكبار في سورية في النصف الثاني من القرن العشرين، شاعر عاش محباً للشعر، وقبع يختلس النظر ويفرغ جعبة الحياة من شعر أحبه وتنفسه، واختار أن يكون مرهقاً بالشعر وحده، فلم يدفع أحداً، ولم يدافع عن أحد، وحده الشعر بقي بين جوانحه، وإن كان بعيداً مرهقاً، هناك يرسم لوحته وحده، يمرّ على أبوابه ونوافذه، فيشتم رائحة عمره وشعره في كل نوع من حياته المتعددة، ويتميز عن الآخرين بأنه رجل محب يجيد الحب، ومن صومعته يكتب في الآخرين، عن رحلة أو ديوان، أو حتى قصيدة! يشيد بالآخر وإن كان دونه منزلة وشعراً بدافع من الحب 1965 أصدر عبد الكريم الناعم مجموعته الأولى (زهرة النار) مطوباً من وزارة الثقافة صوتاً شعرياً مميزاً بين دفتي مجموعة استطاعت أن تكرسه شاعراً من النموذج المختلف، ليصدر قرابة عشرين مجموعة شعرية جلّها كان عن وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب، لما يحمل ذلك من اعتراف ودلالة منها: عينا حبيبتي والاغتراب، تنويعات على وتر الجرح، احتراق عباد الشمس، من مقام النوى، أمير الخراب وغيرها…
لقاء أحدث
كنت على صلة بشعر عبد الكريم الناعم وممدوح سكاف وعلي كنعان وعلي الجندي وغيرهم من الشعراء الذين أغنوا الساحة الشعرية عند بدء صلتي بعالم الأدب، وأول ما قرأت له (عنود)، ووقفت عند مكابدات ابن زريق الحمصي، لما في العنوان من محاكاة لرحلة ابن زريق البغدادي صاحب قصيدة (لا تعذليه) وما فيها من مفارقة وقسوة وألم، وبقيت علاقتي مع شعره علاقة متباعدة أقرأ في ديوان أو دورية، ولفت انتباهي صديقي د.حسان فلاح إلى شعر الناعم وأطنب في الحديث عن شاعر لو عمل للترويج لنفسه لكان من كبار المشاهير، وربما كان لزاويته في إحدى الصحف المحلية التي كنت أتابعها أثر في بقاء الاسم متداولاً في ذاكرتي مع ما عرفته من شعره، وربما أسهمت تلك الزاوية في إبقاء عبد الكريم الناعم في خانة الصحافة والزاوية، وحين أردت العودة إلى دواوينه لأقرأ وأكتب عن الشعراء السوريين خذلتني مكتبتي التي تراكبت كتبها، ولم تعد مسعفة بفوضى الكتب التي أضاعت في ثناياها الكتب التي جمعتها بنفسي، ولكن الظروف شاءت أن أتداول اسمه والحديث عنه وعن جلساته مع د.حسان، الذي أكد لي أن أي حديث عن الشعر السوري لا يحوي حديثاً عن عبد الكريم هو حديث مبتسر! تملكتني الدهشة من الحديث عنه، وقد كان في الوقت نفسه الصديق عقبة الناعم يحمل لي هدية الشاعر الكبير من آخر إصداراته، وهنا تأكد لي من خطه ومبادرته وهو الذي بدأ الشعر قبل أن أرى النور من أن الناعم إنسان مختلف، وهي صفة الشاعر الحقيقي.
وفي إطار من المشهدية التي وقف عندها النقاد، ومنهم عصام شريتح تظهر ثقافة عبد الكريم الناعم التراثية العميقة، فوظف معرفته وثقافته في استلهام الحالة المثلى لابن الزمن المنتمي إلى تاريخ طويل طويل:
أترى تعرف أمي أي حمل رفعت؟!
غير أني أن ادعى أسأل الهدهد أن يمنحني تلك العباءة
فأنا ابن البداءات تلظت باكتمالات البداءة
قصر مولاتي قريب
يا إلهي ادفع الحبسة عني
منذ سبعين اتجاهاً
وأنا أدعى فأدنو
فإذا ما أذنت أن أفتح الدفتر كي أقرأ شيئاً أتلجلج!
ليس لي أفق، وهذا الرهق الطاغي اجتراح
جاء في هامش كناش قديم
قد يصير الورد عوسج
ليست مشهدية شعرية وحسب، بل فيها الصورة المتقدمة، وفيها سليمان وهدهده، وفيها النيل وموسى، وفيها الكثير من الألم واللوعة، وفيها كذلك من ألم التحول من الجمال إلى اللاجمال، وعندما يستفيق القارئ على هذا الشعر يدرك أن الشعر الجميل لم ينته ولم يتوقف، ولكنه قد لا يصل إلى القارئ في المكان المحدد والزمان اللازم… وربما كان لابتعاد الناعم عن المركز والمشهد الشعري الاحتفالي وراء غياب هذا الصوت بعيداً.
أنت أمام شعر من النوع العالي صورة وإحساساً ومشهدية واحتراماً للقارئ.
وليوسف مكان
لم يتوقف الشعراء عن استلهام الماضي، وكل بشكل، ولعل قصة يوسف من أهم القصص لما فيها من رؤى وأحلام، وما فيها من أحقاد وعداوة وأخوة وأبوة، وما فيها من حياة تضج بالمال والحب والجنس والعفة، وما فيها من تحول لا يخطر ببال في كل مجال، والناعم على ذاكرة نهره وقف مع قصة يوسف، وأخذ منها ما يناسب حالته الشعرية لينطلق من حالة عامة إلى حالة خاصة يفردها من ذاكرته:
نار في الغرب
نار في الشوق
نار في الأفق
ليل في الجب
وليوسف أحزان البئر المهجورة
حقد الإخوة مفتتحين الآية بالذئب الأهلي
الثاوي في الأعماق
بلد عملته الأنفاق
نفق في نفق
يذهب فجراً
صحن الجامع قبل بزوغ الضوء
براءته
ظهراً ينهب أموال الفقراء
يوزع حجته أيماناً كاذبة
عصراً يهدي للقاضي أحلى قفطان
ليلاً يزني ثم يصلي
كل يدخل الميزان
عمق في طرح وجع الإنسان، وشعر يحترم ذاكرة المتلقي وثقافته، يقدر معرفته بالجب والفساد، وبيوسف وإخوته، وبالنسوة وهيت لك، يجمع الفساد في بؤرة من قصيدة ولوحة ليتقدم إلى القارئ رافضاً كل نوع من أنواع الفساد، وإن ترافق بأوقات ظهور الشمس ومغيبها..
عبد الكريم الناعم شاعر يستحق الدراسة، ولديه ما يكفي ليتم تناوله كظاهرة شعرية أصيلة متمرسة بالشعر والثقافة على حد سواء، ولو كان يحفل بالمهرجان لكان في مكانة أخرى، لكنه نزع عنه رغبة المهرجان، وأبقى المهرجان لأبوابه التي أصدرها في (مهرجان الأبواب) فكان ومضة من إحساس خاطف، يقدم سلافة استلهمها من دنّ نبيذه الشعري المعتق:
أول ما ابتدأ الحداد
صباح نظرت إليه
روحي كانت مثل فراشة نار
وأنا جمرة ذاتي
قلت سأحمل سلم روحي
كي أفردها بين يديه
وخطوت لأقرئه أني موجود
منذ الفجر
وكان يعلق قفل الباب
فقلت سأتركه حتى يفرغ
لم يأبه
كان
وظل يرتب عدته
أول ما ابتدأ الحداد قيافته
أعلن بدء قراءته
يا نار اتقدي
ثم فراش من جمر
يتناثر
شهب
إنا أعطيناك النار
تلك فراشة جمر
بعد ثوان من رحلتها تطفأ
تدخل في صمت الأحجار
إنا أعطيناك الصمت
والحداد الطافح يفرد خيمته
النارية باسم بداءات القدّاح
فيبزغ ميلاد من أفق الموت
إنا أسكناك البيت.
لا تخلو قصيدة لعبد الكريم الناعم من عمق في الطرح وفكر متقد، إنه الشعر المحمّل بالذات الذي لا يكتفي بأن يقدم صورة جميلة، ولا يكتب ما يعد له فقط، شعر لا تقتله شهوة القول، بقدر ما تدفعه قدرة التفكير والبحث في الجوهر.
اعتذر من ذاتي التي تأخرت في الغوص في أعماق شعر سوري يحمل مشروعاً شعرياً وثقافياً، وأشكر لهذه القراءة التي منحتني الكثير، وحالت وقتاً بيني وبين الكتابة عنه، فأنا أمام نص مفعم بالشاعرية، ومن الصعب أن تدخله بعد أن يسكنك، فهو لك ومنك، ومن معين أنت له يأخذ كل فاصلة..
عبد الكريم الناعم من الشعراء القلة في زماننا الذين أخلصوا لفن القول، وتركوا للأفق أن يحمل رسائلهم الممزوجة بنبيذ معتق من الإنسان والكلمة.