يزدحم العالم كما المنطقة بمتغيرات متلاحقة، تنبئ بوجود حالة من التمرد غير المسبوق على النظام العالمي الأحادي الحالي، ما يعني مغادرة حقبة التبعية والولوج في حقبة جديدة، قائمة على الاستقلالية والتعددية، والشروع في بناء نظام عالمي جديد، عماده المصالح الاقتصادية والإنمائية للدول والشعوب.
العديد من الدول لاقت تلك المتغيرات بإيجابية متسارعة، حيث وجدت فيها الفرصة الملائمة للتحرر من سياسة المحاور والتبعية لأميركا، بعدما أمعنت الأخيرة في تغليب مصالحها وتجيير وربط ثروات الدول بالدولار الأميركي كأداة لازمة، بهدف الضغط وإجبار تلك الدول على اتباع السياسات الأميركية ولو كانت تخريبية، ومن الدول التي استجابت للمتغيرات، المملكة العربية السعودية ودول الخليج وجمهورية مصر والهند، إضافة إلى روسيا والصين، الأمر الذي شكل انقلاباً على سياسة المحاور والتبعية للغرب وأميركا.
السؤال الذي دأبت أميركا طرحه على تلك الدول: هل أنتم في محورنا أم مع المحور الآخر؟ أي مع روسيا أو الصين أو مع منظمة دول شانغهاي أو البريكس؟ لم يعد هذا السؤال مجدياً، ولم يعد طرحه مسموحاً، فاليوم ومع تلك المتغيرات الإقليمية والدولية الحاصلة، أضحى العامل الاقتصادي هو المتقدم والمعتمد في رسم سياسات الدول، ولم يعد هناك مكان لسياسة المحاور المبنية على التبعية، بما يتوافق وموازين القوى العسكرية.
إذاً على الغرب وأميركا بالتحديد، التوقف عن الاعتقاد بأن أزماتها يجب أن تنسحب بالضرورة على دول العالم، فالأزمات المصطنعة أميركياً لم تعد تعني دول العالم، وخصوصاً بعدما بات الكل يبحث عما هو الأفضل لحل مشكلاته بما يتناسب مع مصالحه الاقتصادية.
التكتلات والتحالفات الآن أصبحت اقتصادية أكثر منها سياسية أو عسكرية، ولا يمكننا تجاهل أثر هذه المتغيرات على السياسات الخارجية للدول الأخرى، فالصعود الاقتصادي لدول خارج المحور الغربي الأميركي، فرض أمراً سياسياً مختلفاً تماماً، وأصبح الاقتصاد هو المحور الأساس الذي يستقطب التكتل فعلاً، وأن الاستقطابات نتيجة التهديدات العسكرية قد انتهى زمنها، وبناء عليه، لم يعد ممكناً إجبار تلك الدول على اتخاذ موقف مؤيد لأميركا أو للغرب، على عكس مصالحها الاقتصادية، ولا يمكن بعد اليوم سؤال تلك الدول أين تقف مع الصين أم روسيا؟
العقوبات الاقتصادية، وهي سلاح أميركا المعتمد منذ عقود بغرض الانصياع لمصالحها لم تعد فاعلة، ومثال ذلك دول «أوبك بلس» التي تمردت على مسألة العقوبات، وذهبت بعيداً عن الإملاءات الأميركية الغربية، واتخذت قراراً جريئاً، بخفض الإنتاج بدلاً من زيادته، ما أثار الحنق الأميركي، وفي مثال آخر، أميركا فرضت عقوبات على مَن يشتري النفط من روسيا، بيد أن روسيا ما زالت تبيع نفطها للعالم، بل إن بعض الدول الأوروبية تشتريه من روسيا ومن السعودية منفذة عملية تمرد وانقلاب اقتصادي على العقوبات الأميركية الغربية.
إن الاقتصاد ببساطة لم يعد تابعاً للسياسة، بل العكس تماماً، فدول العالم لم تعد ملزمة بالمواقف الغربية الأميركية، وتبين ذلك بوضوح من الموقف الدولي تجاه العقوبات التي يلوح بها الأميركي، عند كل مشكلة تتعلق بالمصالح الغربية الأميركية، فالمعادلة أصبحت بسيطة جداً، وهي أن المصلحة الاقتصادية هي التي تحدد الموقف السياسي لا العكس، وهذا ما لم تستوعبه الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
الجديد في المتغيرات أن هذه الدول، رغم عدم انصياعها للعقوبات وللإملاءات الغربية، فإنها لم تقاطع الولايات المتحدة وأوروبا ولن تقف ضدهما، وأن القرارات في تلك الدول لم تعد تُتخذ بناء على وجودها في محور ما، بل أصبحت قراراتها تُتخذ باستقلالية تامة، وبناءً على مصالحها الذاتية، فكلما سارع الغرب وخاصة دول أوروبا بالاعتراف بهذه المتغيرات، بنى إستراتيجيته على معطيات واقعية، لكن الممارسة أثبتت أن الغرب وأميركا كلاهما بعيدان عن الواقع.
يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرر سلوك درب الواقعية، بعدما أدرك ولو متأخراً خطورة السياسة الأوروبية القائمة على التبعية للسياسة الأميركية، ففي تصريح له أثناء عودته من الصين نقلته صحيفة «بوليتيكو» وأمام عدد من الصحفيين الفرنسيين قال: يتعين على أوروبا تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وتجنب الانجرار وراءها إلى مواجهة مع الصين بشأن تايوان، مؤكداً على نظريته حول الحكم الذاتي الإستراتيجي لأوروبا، والذي من المفترض أن تقوده فرنسا، لتصبح قوة عظمى ثالثة، بحسب تعبيره.
ماكرون تابع قائلاً: «الخطر الكبير الذي تواجهه أوروبا، هو أنها عالقة في أزمات ليست من شأنها أو من أزماتها المباشرة، ما يمنعها من بناء استقلاليتها الإستراتيجية، مشدداً على أن الأوروبيين، يجب ألا يكونوا أتباعا للولايات المتحدة، في أزمات لا دخل لأوروبا بها، ولفت ماكرون إلى أن أوروبا زادت من اعتمادها على الولايات المتحدة، في مجال الأسلحة والطاقة، وبالتالي يجب على أوروبا الآن التركيز على تعزيز اقتصادها والصناعات الدفاعية الأوروبية، داعياً إلى ضرورة تقليل أوروبا من اعتمادها على الدولار خارج الحدود الإقليمية.
في مقال للمحلل الفرنسي رينو جيرارد نشرته صحيفة «لوفيغارو» منذ يومين قال: الأميركيون استخدموا عملتهم كأداة للضغط السياسي على الدول، بهدف الانصياع إلى مصالحهم الخاصة، وهذا الأمر شكل دافعاً إلى تبني حركة عالمية للإطاحة بالدولار، فالتخلي عن الدولار عملية لا رجوع عنها، وذلك نتيجة استخدام واشنطن عملتها أداة لابتزاز الدول الفاعلة.
الخبير الاقتصادي الأميركي جيفري ساكس، وفي مقابلة مع شبكة «سكاي نيوز»، توقع نهاية درامية للدولار الأميركي قريباً، وبذلك ستفقد أميركا سلاح الضغط الرئيسي، الذي لطالما تسلحت به لممارسة ابتزاز دول العالم ولعقود طويلة، وأضاف: إن العالم يتجه نحو تعدد الأقطاب، ونهاية الهيمنة الغربية، ودول العالم أضحت بحاجة للدمج الإقليمي، لتحقيق الأمن الاقتصادي والتنمية، وإن النزاعات الأميركية المفتعلة لم تعد مفيدة لأحد.
الخلاصة لم تعد سياسة المحاور الأميركية الغربية ثابتة أو ملزمة بل إنها سياسة آخذة بالتفكك، وعلى الغرب أن يرى تلك المتغيرات سريعاً، وإدراك مدى ازدياد حجم استقلالية القرار في الدول التي كانت تدور في فلك الغرب وأميركا.
إن الاستفادة من الواقع الاقتصادي للدول طبقاً لمصالحها وتأثير ذلك على واقعها السياسي، بما يتلاءم مع المتغيرات الدولية المتسارعة، ينبئ بتوديع محاور التبعية العمياء، والتوجه نحو تنفيذ انقلاب على نظام الدولار الأميركي الأوحد، والانتظام بنظام عالمي متعدد جديد، يعتمد على التكامل الاقتصادي وعلى تبادل العملات المحلية تماماً كما يحدث الآن بين روسيا والصين.