أوائل شهر آذار المنصرم كانت آخر استطلاعات الرأي تشير إلى أن حظوظ المرشحين الأبرزين للانتخابات الرئاسية التركية تكاد تكون متقاربة، لكن كل منهما سيحصل، وفق تلك الاستطلاعات، على نسبة هي دون الـ50 بالمئة، ما يعني الانتقال حتما إلى جولة ثانية ستجري يوم 28 أيار، وهي ستكون مختلفة تماماً في معطياتها عن الأولى بدرجة قد تكون معها كما لو أنها مقروءة النتيجة سلفاً قياساً لاعتبارات عديدة.
كان ذلك قبيل أن تتلقى «طاولة الستة» الجامعة للمعارضة التركية ضربتان من العيار الثقيل في غضون شهر آذار عينه، ففي الثاني من هذا الشهر الأخير أعلنت زعيمة حزب «الجيد» ميرال أكشنير وهي أحد أقطاب الحركة القومية التركية، بعد ساعات من توقيعها على بيان نتج عن الاجتماع الذي حمل رقم 12 من بين اجتماعات «طاولة الستة»، عن انسحابها من التحالف المعارض الذي قال في بيانه: إن المجتمعين توصلوا «إلى فهم مشترك حول الانتخابات سيعلن عنه يوم الإثنين 6 آذار»، وإعلان أكشنير في حينه، أصاب بنيان المعارضة بهزة شديدة، والراجح فيه هو أن الأخيرة كانت قد قرأت قرار ائتلاف المعارضة بترشيح زعيم حزب «الشعب الجمهوري» كمال كليتشدار أوغلو على أنه سيفضي في النهاية إلى تقارب الأخير بالضرورة مع «حزب الشعوب الديمقراطي» لأنه سيكون بأمس الحاجة إلى أصواته في الدورة الثانية من الانتخابات التي بات حدوثها أمراً شبه محقق، وأكشنير، لا تريد وصول رئيس للجمهورية عبر ترجيح أصوات القاعدة الكردية قياساً لنزعتها القومية، وفي أواخر الشهر أعلن محرم إينجه، المنضوي تحت راية «تحالف الأمة»، عن قراره الترشح كمستقل وبعيداً عن هذا الأخير الذي يمثل حزب «الشعب الجمهوري» ثقله الأوزون، واللافت هنا هو أن إينجه نفسه كان مرشح هذا الحزب الأخير في مواجهة رجب طيب أردوغان خلال الانتخابات التي جرت عام 2018، لكن أداء الحزب وشعبيته المتراجعة كانت قد دفعت به إلى الاستقالة في عام 2021 ليعلن بعدها تأسيس حزب خاص به أطلق عليه اسم «حزب مملكت» أي البلاد، والراجح هنا هو أن دوافع إينجه كانت «انتقامية» بالدرجة الأولى من حزبه القديم وزعيمه الذي بات الآن المرشح الأبرز لـ«تحالف الأمة» في مواجهة أردوغان.
منذ تأسيس المعارضة التركية لتحالفها المسمى «طاولة الستة» في شباط من عام 2022، بدا وكأن ثمة عوامل داخلية وأخرى خارجية «تلعب» لمصلحة ذلك التحالف فتجعل من أحلامه مشروعه في إنهاء حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي زاد نيفاً عن عقدين من الزمن، والشاهد هو أن العوامل الأولى منها، أي الداخلية، كانت تسير كما تشتهي رياح الأحزاب الستة فالفورة الاقتصادية التي شكلت «مشروعية» البقاء في الحكم لكل تلك الفترة المديدة، تراجعت في غضون السنتين الماضيتين اللتين كانت السمة الأبرز لهما هي تعثر الاقتصاد الذي ظهر كمن ينوء بأحمال لا قبل له بها، ولذاك تبعات سياسية تشير إلى أن «المشروع السياسي» الذي حمله حزب «العدالة والتنمية» قد يكون هو الأبرز في أسباب ذلك التعثر قياساً لنزعة «التمدد» في الجوار التي انتهجها، جنباً إلى جنب إقرار «النظام الرئاسي» عام 2018 والذي وضعه العديدون في موضع المعوق لعجلة الاقتصاد إبان دورانها، أما العوامل الثانية، أي الخارجية، فكانت تشير إلى أن «الجفاء» الحاصل مع واشنطن منذ انقلاب تموز 2015، ومع الغرب عموماً منذ اندلاع الحرب الأوكرانية شباط من عام 2022، يمثل أحد الأسباب البارزة لـ«خفوت» الفورة ومن ثم دخولها مرحلة الانحسار التي يتوقع خبراء أن يحقق هذا الأخير مراحل أبعد مدى من تلك التي وصلها حتى الآن إذا ما استمرت السياسات المتبعة على حالها الذي تسير عليه.
لا شك في أن أردوغان هو أكثر المستفيدين من التطورات السابقة التي صدرت صورة مشرذمة للمعارضة نتج عنها تعدد المرشحين الذين أضحوا أربعة: أردوغان عن «تحالف الجمهور»، وكمال كليتشدار أوغلو عن «تحالف الأمة»، ومحرم إينجه كمرشح مستقل، وسنان أوغلو عن «تحالف آتا»، وإذا ما كانت استطلاعات الرأي تقول بأن الثالث سيحظى بتأييد 3 بالمئة من الأصوات، وبأن الرابع سيكتفي بـ1 بالمئة منها، فإن ذلك سيكون شديد التأثير في النتائج التي سيتحصل عليها الأولان حيث من المتوقع أن يصب ذلك في مصلحة أردوغان لكن من دون أن يتخطى عتبة الـ50 بالمئة الضرورية لحسم الفوز من الجولة الأولى، ومن المؤكد أنه سينتقل رفقة كليتشدار أوغلو، إلى الجولة الثانية حيث ستكون حظوظه هي الأوفر بالنجاح فيها وخصوصاً إذا ما حدثت في غضون تلك الفترة تطورات مساعدة من نوع أن يرتقي التلاقي السوري التركي إلى مستوى الوزراء، أو أكثر، حيث سينظر الناخب التركي لهكذا تطور على أن أعباء الأزمة السورية التي أتعبته آيلة للزوال.
مثل هكذا سيناريو قد يكون ذا تداعيات أبعد مدى من فوز حزب «العدالة والتنمية» بانتخابات أيار الجاري التي ستضمن له البقاء في السلطة حتى عام 2028، وقد يفتح ذلك السيناريو الآفاق أمام هذا الأخير للاستمرار فيها إلى ما بعد هذا التاريخ، فاللحظة التي قادت إلى ائتلاف «الستة» المعارض حتى مطلع آذار 2023 من الصعب أن تتكرر كثيراً، وفوز «العدالة والتنمية» سيؤدي إلى انفراط عقدها والدخول في حال من التشرذم سيصعب التنبؤ إلى أين يمكن أن تصل، إذ لطالما كانت «الهزيمة» على الدوام مدخلاً لمراجعة حسابات دقيقة من شأنها أن توقظ الافتراقات لا نقاط التلاقي.