ثقافة وفن

المسؤول والواقع

| إسماعيل مروة

بين الحاجة والواقع مسافة بعيدة جداً وأكثر من قريبة، الحاجة التي تلزم الإنسان ليكمل حياته مبدعاً وقادراً ومرتاحاً أقل من القليل، وهذا ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل الدين الذي كان مشرفاً على القدس عندما وصل عمر راجلاً يجرّ جملاً عليه خادمه، قال له: أحتاج راحلة أركب وأمشي، وآكل ما يكفيني، ولا يعنيني ردة فعل رجل الدين ولا الحوار الذي دار بينهما وغاياته الدينية والتبشيرية، لكن الذي يعنيني أن عمر حدّد حاجاته بما يناسبه ويناسب زمانه ورمزيته ومكانته، لذلك قال فيه حافظ إبراهيم (عدلت فأمنت فنمت يا عمر) ولذلك يتداول الكتاب والمؤرخون ما كان منه مع بائعة الحليب، ومع ابنه والثوب وغير ذلك، وليس مطلوباً اليوم من مسؤول اليوم أن يمشي حيناً ويركب حيناً، فالوقت تغير واختلف، والحياة ومتطلباتها ليست كما كانت في ذلك الزمن البعيد، واللوازم الحياتية والعلمية والطبية والسياسية لم تعد كما كانت، لكن مفهوم الحاجة لم يتغير، وسواء كان المسؤول في مكتب فخم، أعدّه بأفضل إعداد أو كان على طاولة أنيقة في غرفة عادية بإمكانه أن يقود مسؤولياته، وليس مطلوباً منه أن يكون في غاية الترف، وليس مطلوباً أن يعيد فرش مكتبه عند استلامه، لأن المكان دوّار كالكرسي تماماً وكما جاء إليه سيأتي إليه خلفه، وليس صحيحاً أن يلغي المسؤول في أي مكان كل الذي كان سابقاً له، لأنه الفهيم الوحيد في الكون ليبدأ من جديد، ويقدم دراسات، إن كانت صحيحة لن تنجز قبل حلول موعد مغادرته! وسواء أكان المسؤول في بيت متواضع في مكان عادي أم كان بيته في أرقى الأحياء فهذا الشيء لا يغير في الأمر شيئاً، وفخامة البيت وسعره لن يضيف لهذا أو ذاك مقداراً من الفهم الكبير أو التخطيط، بل من الممكن أن يفصله عن الواقع وعن الناس وعن حاجاتهم التي لا تتعارض بشكل من الأشكال مع الوقت القاسي فإذا كانت بلدنا تتعرض لمخاطر وتحديات، وهذا أمر واقعي لا شك فيه، فهذا لا يعني المساس بالحاجات أيها السيد المسؤول، وسكنك وسياراتك ورفاهيتك تسهم إسهاماً كبيراً في فصلك عن الواقع، وفي غياب القياس الحقيقي لحاجات الناس، فماذا تقول عن حاجة أكثر من نصف المجتمع الذي يعيش في بيوت بالأجرة، وتفتقد أدنى حدود الحياة الكريمة، وإيجار هذا البيت يفوق مرتبك الحقيقي الذي تتقاضاه وأنت في مسؤوليتك!؟ الواقع قاس جداً، لكن يجب أن يكون قاسياً عليك قبل أن يكون قاسياً على الناس، أما تجولت في أثناء مباريات كرة القدم على المرابع الراقية لتجد أبناءك وأبناء طبقتك يدفعون على جلسة مرتب شهر كامل؟! ستقول عنه كما قلت عن نفسك: معه وليس بحاجة! ولكن ألا ترى نفسك راعياً؟ ودعني من حساب الآخرة، فقد تكون غير مؤمن ولا يعنيك! وقد تكون مؤمناً لديك ضمانة من الله بالدخول من أوسع الأبواب إلى الجنة ونعيمها وحورها! لكنني أسأل: إن كنت ترى المسؤولية تعني رعاية الناس والقيام بشؤونهم فماذا قدمت لهم؟ وهل من حقك أن تحرق نفوسهم وأنت تتنقل بين سياراتك العديدة، حتى وإن كانت ملكاً شخصياً لك؟ ليس من حق واحد أن يطالب آخر بأن يدفع من جيبه من أجل الآخرين والمسؤولية، لكنه من المنطق والواقع ألا تأخذ قراراً بناء على مقدراتك وصحتك وواقعك، فإن كنت تتبع نظاماً غذائياً لا تتناول الزيوت والسمون والسكر فلا تجعل هذه الحاجات حلماً، وإن كنت لا تعرف فانزل واشعر بالحاجات، ولن يطلب منك أن تشعر بالناس، حتى أنت يا صديقي المسؤول، وأطلق كلمة صديقي تجاوزاً لأن هذه الصفة مرفوضة من كلينا، فلا أنت ترضاها، ولا المواطن تزيده مكانة في ظل اللامكانة التي دفعته إليها وصارت علامة حياته!

حتى أنت يا صديقي لو لم تكن مسؤولاً ستعجز عن مجاراة الواقع، وعندما تخرج من موقعك سنسمع انتقاداتك وتذمراتك، لأنك ستضطر للاقتراب من مدخراتك الذاتية المزعومة.. قال لي أحدهم ما دام المواطن يتدبر أمره في ظل الوضع فهو معه فليدفع! أطلب من هذا السائل أن ينزل ليعرف أنه ما من واحد يمكن أن يؤمن حاجياته! بل لا يستطيع أن يؤمن الضروريات من احتياجاته، فكيف له أن يكون مرتاحاً ومبدعاً ومنطلقاً إلى آفاق يحتاجها الوطن وتحتاجها سورية في مرحلة إعادة الإعمار؟ الإعمار الحقيقي بحاجة ماسة إلى المال وتدفق الاستثمارات، ولكنه بحاجة إلى الخبراء والناس القادرين على فعل شيء ما، كل في مجاله، ولا يكفي أن يتم اختيار مجموعة من الناس على أساس ما غير معروف لتوضع قواعد غريبة تدّعي أن الحلول كذلك! أمضينا عقوداً، وأضعفنا أعماراً ونحن نفسر الماء بعد الجهد بالماء! فمتى ندرك أن الإنسان هو القيمة؟ ومتى نحقق الحاجة المتناسبة مع الواقع؟

الذي لا شك فيه هو أننا على مفترق طرق، فإما أن نختار الطريق الواضح الممهّد لنصل أو أن نختار الطريق الوعر، وأن نشق طرقاً جديدة بآلات كسيحة متخلفة فنبقى في مكاننا في الزمن القادم!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن