السنوات العجاف، التي عشناها وما نزال خلال سنوات الحرب التي شنتها الفاشية العالمية علينا، أفرزت واقعاً ثقافياً يجدر بنا أن نناقشه بجدية وجرأة، فقد أدى التضخم وتدني القيمة الشرائية للعملة إلى انحسار دور الكتاب وانكماش فعالية المسرح والسينما، لكن دور الدراما التلفزيونية تنامى لأنها مجانية وتصل إلى الناس في بيوتهم. صحيح أن تقنين الكهرباء المديد قد حدّ من تعاظم هذا الدور، إلا أن المواطنين بدؤوا يشاهدون المسلسلات عبر الهواتف المحمولة، ما غيّر طبيعة المشاهدة وحوّلها من شأن عائلي إلى ممارسة فردية.
من المتفق عليه أن الدراما التلفزيونية كانت وما زالت تمثل أحد أبعاد القوة الناعمة السورية. فقبل المحنة كانت سورية تنتج أكثر من أربعين عملاً، وأنه مما يدعو للتفاؤل بروز مؤشرات قوية في هذا الموسم الرمضاني إلى أن درامانا بدأت تستعيد مكانتها ودورها، فقد ارتفع عدد المسلسلات السورية هذا العام إلى ستة عشر مسلسلاً بعد أن انخفض إلى ثمانية مسلسلات عام 2020 بسبب صعوبةِ التصريفِ وجائحة كورونا. وهذا مؤشر جيد لأن الدراما السورية صناعة توفر فرصَ عملٍ لأعداد كبيرة من السوريين من مختلفِ الاختصاصات، وهي إضافةً لما سبق، تجارة رابحة تضُخ في خزينة الدولة مبالغ ضخمة بالعملة الصعبة. وما يدعو إلى شيء من الاطمئنان على مستقبل هذه الصناعة هو ظهور محاولات جادة في هذا الموسم للارتقاء بالصورة إلى مستوى الفن السينمائي. ما يدعوني لتوجيه تحية لصناع الدراما السورية الذين يتفردون بمحاولاتهم المستمرة والمتجددة، لتطوير أدواتهم من خلال تعزيز إيجابيات التجارب السابقة والاستفادة من أخطائها.
تعلمون أن الخوض في طبيعة الفن ودوره وعلاقته بالواقع، يطرح إشكاليات كبرى قديمة قدم الفن، ولن تزول غداً، ولا أزعم بأنني أقدم حلولاً لهذه الإشكاليات الكبرى، كل ما هنالك هو أنني أحاول مقاربتها في ضوء واقعنا الراهن.
بعض الناس يتصورون أن مهمة الفن هي أن يكون مرآة لمجتمعه، أي أن يقدم صورة متطابقة مع الواقع كما تتطابق الصورة الفوتوغرافية مع صاحبها، وخلاصة تجربتي، التي لا تلزم أحداً، هي أن الفن وجهة نظر. فالفنان الحق لا يقلد الواقع ولا يستنسخه بل يفككه ويعيد بناءه بغية كشف القوانين التي تحركه والقوى الخبيئة التي تتحكم به. وهدفه من ذلك هو إغناء المشاهد فكرياً وإشباعه جمالياً.
ما أود قوله هو أن بلدنا يمر بظرف خاص، ما يرتب على المبدعين مسؤوليات خاصة، أرى أن واجب المبدع في هذه الظروف هو أن يوحد الناس لا أن يعزز الحزازات التي تفرقهم، وأن يرتقي بأذواقهم لا أن يعلمهم أساليب الاحتيال وضروب العنف. وبما أن الدراما لا تنتج لمدينة دون سواها، أرى أن من مصلحة الجميع استخدام اللهجة البيضاء في الدراما، لأن الإفراط في تقديم اللهجات المحلية بشكل (متحفي) من شأنه أن يشوش على رسالة العمل الفني الدرامي في ذهن المتلقي، اللهم إلا إذا كان ذلك مستثمراً كجزء من بنية العمل الفني كما في مسلسل «ضيعة ضايعة».