بذلت الولايات المتحدة الأميركية محاولات مستميتة للقضاء على المستقبل السياسي للرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي ترأس بلاده على فترتين بين 2003 و2010، وأطلق خلالهما برامج اجتماعية ناجعة أسهمت في تحقيق العدالة الاجتماعية وحققت له تأييداً شعبياً واسعاً.
وعلى خلفية هذه النجاحات، وقفت الولايات المتحدة الأميركية له بالمرصاد، ومارست أقصى أنواع التهديد والضغط على القضاء البرازيلي، لاتخاذ قرار قضائي يقضي بتوجيه تهم زائفة ضد دا سيلفا وإيداعه السجن، بهدف إقصائه عنوة عن المشهد السياسي، وتنصيب الديكتاتور اليميني جايير بولسوناروبه، الذي عمل لمصلحة أميركا ضد مصلحة البرازيل وشعبها.
ها هو لولا دا سيلفا، ومن السجن يعود رئيساً للبرازيل، وبتأييد شعبي عارم بعد أن استطاع خلال فترة ولايته، إخراج البرازيل من المديونية إلى الوفرة، وقاد تموضعها في قلب الأحداث الجيوسياسية والاقتصادية العالمية.
ويعتبر لولا دا سيلفا أحد أهم المؤسّسين لمجموعة بريكس التي تكتسب أهمية على الساحتين الاقتصادية والسياسية، وتضم حالياً البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا، وكان لولا دا سيلفا حاضراً في الاجتماع الأول لمجموعة دول البريكس في عام 2009، واعداً أن تكون اقتصاداتها أهم من اقتصاد مجموعة السبع الحالية، والتي تعتبر هرم نظام التحكم الاقتصادي الأحادي للعالم.
إن اختيار الصين كأول زيارة يقوم بها لولا دا سيلفا خارج البرازيل، لها دلالات سياسية واقتصادية مؤثرة في طريق مأسسة النظام العالمي الجديد والمتعدد الأقطاب وخاصة بعد نجاح الصين في أتمام مصالحة تاريخية بين إيران والسعودية، إضافة إلى تبنيها مبادرة مؤلفة من 12 بنداً لحل النزاع الدائر بين روسيا وأوكرانيا.
وأولى هذه الدلالات هي أن الرئيس لولا دا سيلفا بدأ بزيارته من شنغهاي، حيث حضر تنصيب الرئيسة السابقة للبرازيل ديلما روسيف، كرئيسة لبنك مجموعة البريكس الذي انتهى من وضع الأسس الكفيلة للبدء بتنفيذ التداول بالعملات المحلية لدول المجموعة، واستبدال اليوان بالدولار الأميركي، وقد أعلن البنك المركزي البرازيلي أن اليوان، أصبح ثاني عملة احتياطية للنقد في البرازيل بعد الدولار الأميركي ومزيحاً اليورو من هذه المكانة.
رافق لولا دا سيلفا في زيارته إلى الصين أكثر من 100 شخصية اقتصادية فاعلة في البرازيل، وتم خلال الزيارة توقيع أكثر من 15 اتفاقية بين البرازيل والصين، بلغت قيمتها عشرات المليارات، معتمدة مبدأ التبادل بالعملات المحلية، ومن المتوقع أن بنك مجموعة البريكس سيخطو خطوات تمويل تلك المشاريع، وذلك لإخراج الدولار الأميركي من التبادل بين الصين والبرازيل ومستقبلاً مع روسيا والهند من التبادل بين دول مجموعة البريكس.
صحيح أن الملف الاقتصادي كان مهيمناً على محادثات لولا دي سيلفا والرئيس الصيني شي جين بينغ، لكن وفي الملف السياسي، فإن الأول تحدث عن عودة بلاده إلى دورها العالمي بعد غياب معروفة أسبابه الأميركية، ويقول دا سيلفا:
إن عدد سكان البرازيل يفوق عدد سكان الدول الأعضاء في مجلس الأمن روسيا وبريطانيا وفرنسا مجتمعة، وهذا يعني أنها تستحق مقعداً في مجلس الأمن في إشارة واضحة إلى مقارعة قادمة مع الولايات المتحدة الأميركية ومع مجلس الأمن.
يضيف لولا دا سيلفا، نرغب بطريقة حكم دولية لا تشبه مجلس الأمن الحالي، وقد أطلقت البرازيل دعوات عدّة لإصلاح النظام العالمي القائم في الأمم المتحدة، من أجل ضمان علاقات دولية أكثر عدالة وديمقراطية، ما يعني أن الحاجة لإجراء إصلاحات بنيوية على مجلس الأمن وعلى نظام الأمم المتحدة، بات أمراً لا بد منه وضرورة ملحة، لبناء نظام عالمي جديد.
وفي القراءة الأولية لزيارة لولا دا سيلفا إلى الصين واجتماعه مع الرئيس شي، فإن أهمية الزيارة تأتي بعد اعتماد الصين قبلة اقتصادية للدول التي تحاول الفكاك، من التبعية الاقتصادية والسياسية لأميركا، والتي أثبتت فشلها في تحقيق الإنماء والعدالة الاجتماعية، لأي من البلدان التي احتلتها أميركا أو أنها لم تزل حليفة لها.
إن تجربة البرازيل مع الولايات المتحدة الأميركية كانت سيئة للغاية، وخاصة بعدما عمدت إلى محاربة نموذج لولا دا سيلفا وبوسائل أقل ما يقال فيها إنها وسائل استبدادية قمعية، هادفة إلى الهيمنة على مقدرات وثروات البرازيل، ولا ننسى أن أميركا أسهمت في دعم جايير بولسونارو الذي كان ينفذ أجندتها المعاكسة لمصلحة البرازيل، والتي تصب في مصلحة هيمنة البنك وصندوق النقد الدوليين على ثروات البرازيل، وعلى حساب مصلحة الشعب البرازيلي، تماماً كما حصل ولم يزل في العراق ودول الخليج وليبيا والسودان ومصر ولبنان.
في هذا الإطار نرى أن زيارة الرئيس دا سيلفا إلى الصين، وكل الإنجازات الاقتصادية والسياسية لهذه الزيارة، لها أهمية خاصة ليس على مستوى البرازيل وحسب إنما على مستوى دول أميركا الجنوبية، وأيضاً على مستوى دول مجموعة البريكس.
في نهاية زيارته قال لولا دا سيلفا، إن الصين هي المحرك الرئيس للتنمية الزراعية في البرازيل، ويمكن أن تصبح أيضاً محركاً قوياً لإعادة التصنيع البرازيلية، وأضاف: إن «صادرات البرازيل إلى الصين أكبر من الصادرات إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين، كما أكد أن البلدين لديهما إمكانيات كبيرة للتعاون في مجال الحفاظ على السلام، وتعزيز التعددية والقضاء على الجوع والفقر ومكافحة تغير المناخ، مشدداً على ضرورة تعزيز الدور الريادي لبنك مجموعة البريكس والتعامل بالعملات المحلية لأن ذلك من شأنه، المساهمة في بناء عالم أفضل وأكثر عدلاً.
الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وفي مقابلة لـ«فوكس نيوز» قال: إن عملتنا الوطنية التي كانت في صلب التداول العالمي الآن نراها تنهار، وخصوصاً بعدما قررت بعض الدول الوازنة اقتصادياً التداول بالعملات المحلية بمعزل عن الدولار الأميركي، وقريباً لن يكون الدولار الأميركي هو العملة العالمية، وهي الهزيمة غير المسبوقة للولايات المتحدة الأميركية منذ 200 عام، وهذا الأمر سيبعد أميركا عن مكانتها كقوة عظمى من دون أدنى شك.
إن العالم في طور متغيرات لم تحدث منذ مئة عام، وعندما نكون معاً نستطيع قيادة هذه المتغيرات، وهذا ما قاله الرئيس الصيني شي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مراسم الوداع في موسكو، من هنا يمكننا الاستنباط، أن المسألة تتجاوز العلاقات الثنائية بين الدول، لأن ما يحدث الآن هو العمل على قيادة جماعية للمتغيرات العالمية الاقتصادية والسياسية القادمة، والشروع في بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، تحت مظلة اقتصادية وسياسية، من خارج صندوق التبعية للنظام الاقتصادي والسياسي الأميركي الأحادي، وذلك بالاعتماد على التداول بالعملات المحلية للدول، بمعزل عن الدولار الأميركي الذي تحكم باقتصادات العالم لعقود من الزمن.