من الواضح أن ما حصل ويحصل في السودان من نزاع اتسعت دائرة ثقله وآثاره السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، لن تكون له معالم حلول قريباً وفق كل المؤشرات والمعطيات التي يزداد تبلورها أكثر فأكثر مع مرور الأيام على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي.
ويبدو أن اشتداد العنف في السودان لن ولم تنحصر رقعته وتأثيره وتداعياته والأطراف الفاعلة والمتأثرة فيه فقط بالخريطة الجغرافية للسودان المنهك الممزق، بل باتت علاقة التأثر والتأثير عضوية في هذه الأزمة، من حيث أطراف النزاع وإمكاناتهم ومرجعاتهم الداعمة، أو من حيث الكارثة المدمرة التي تنتظر السودان والشعب السوداني، وكذلك من حيث لعبة المصالح والتوازنات على قاعدة الرابح / الخاسر التي باتت تشكل فرصة ذهبية لبعض الفواعل الإقليمية بالنسبة للشق الأول من هذه القاعدة، وأصبحت تؤرق وتقلق الفواعل السياسية وخاصة الإقليمية من الجانب الثاني لهذه القاعدة.
فدخول السودان أتون النفق المظلم عبر ما يحصل من اقتتال بات خلف الظهور الآن، وآليات الحلول السياسية هي غائبة بالمطلق في ظل التطورات والمواقف وطبيعة الصراع الحاصلة ضمن النظامين الإقليمي والدولي، وعليه فإن هناك العديد من النقاط الواجب ذكرها هنا لمعرفة طبيعة ما تشهده السودان وتداعياته مستقبلاً:
أولاً- ما يتم في السودان هو بالشكل نزاع بين طرفين داخل المؤسسة الواحدة على السلطة يطمحون للهيمنة على موارد السودان من ذهب ونفوذ وقوة، في حين أنها بالمضمون تعبير عن صراع له حسابات وارتباطات ومصالح خارجية، بدأت تتزايد صورتها وتأثيرها خلال الهدنة الثالثة والرابعة.
ثانياً- أكثر المستفيدين من هذا الصراع هي مجموعة من الدول التي يمكن إيرادها وفق التالي:
– الولايات المتحدة الأميركية التي تعد من أكثر الفواعل السياسية التي تمتلك مصلحة لاستغلال ما يحصل في السودان لمصلحتها، إن لم نقل إنها افتعلت، إذ يشكل الصراع الأميركي الصيني في القارة الأفريقية أحد أبرز نقاط الاشتباك، وتخشى الولايات المتحدة الأميركية من استغلال الصين لتراجع معدلات النمو الاقتصادي والتنمية لدول القارة الأفريقية وتقوم بإنشاء مشاريع تنموية وشراكات إستراتيجية تضر بالمصالح الأميركية، كما تسعى واشنطن استغلال الوضع في السودان للضغط على مصر في عدة ملفات وخاصة بعد التقارب العسكري للأخيرة مع روسيا.
– أثيوبيا، وتعتبر من أكثر الدول المستفيدة من الفوضى السودانية لاستكمال مطامعها الرامية في إطلاق المرحلة الثالثة من تعبئة سد النهضة والشروع في التمهيد للمرحلة الرابعة، في ظل ظروف تجعل السودان بعيدة عن أي وضع تتمكن فيه من الاعتراض على هذه المطامع، وتدخل مصر في الانشغال على أمنها القومي المهدد من الجنوب السوداني.
– الكيان الإسرائيلي ذو العلاقة القوية مع طرفي النزاع، الجيش و«قوات الرد السريع»، إذ إن الكيان الإسرائيلي بناء على توصية مركز بيغن السادات عام 2008، تبني إستراتيجية قوامها توسع نفوذه في الدول القريبة من البحر الأحمر وخاصة السودان، وذلك لتحقيق مصالح استخباراتية من جانب ومن جانب آخر للضغط على مصر في بعض الملفات، وللحد من نقل الأسلحة لحركات المقاومة في فلسطين من السودان في جانب ثالث، فضلاً عن مصالح اقتصادية وأخرى تتقاطع مع واشنطن بالمنطقة.
أما مصر فهي في موقف لا تحسد عليه ويمكن اعتبارها بأنها من أكثر المتضررين مما يجري بالسودان، في مجالات متعددة أبرزها، خسارة تواجد جنودها الطيارين في قاعدة مروي شمال السودان بعد احتجاز عناصرها هناك، وهي قاعدة وإن كانت تحت مسمى التدريب إلا أنها تشكل ركيزة لمصر في حال حصول اشتباك مع أثيوبيا، كما أن تدفق اللاجئين إليها من حدودها الجنوبية سيشكل عبئاً اقتصادياً يضاف إلى اقتصادها الممتلئ بالأثقال وخاصة بعد التضخم الحاصل، كما أن انتشار الفوضى في السودان قد يسهل ذلك عبور التنظيمات المسلحة الراديكالية بما فيها جماعة الإخوان نحو الأراضي المصرية، وانشغال مصر في مواجهة هذه التحديات سيدفع إثيوبيا لملء ما بين 17 إلى 22 مليار متر مكعب في سد النهضة ضمن المرحلة الثالثة وهو ما سيجعل مصر أمام تهديد مائي حقيقي.
ثالثاً- الحديث عن دور إقليمي ودولي والدعوة لحل النزاع سلمياً يبدو أنه مجرد شعارات وبالونات إعلامية توظف من قبل الفاعلين المختلفين، حيث لم يلاحظ أي دور للأحزاب السودانية أو معظمها وهو ما يعني انتظار هذه الأحزاب لظهور كفة المنتصر للتعبير عن تأييده، كما لم يلحظ أي دور لجامعة الدول العربية، وهو ما بات طبيعياً، وغياب دور الاتحاد الأفريقي الذي لم يجتمع ولم يرسل قوات فصل على غرار النزاعات السابقة في السودان وغيرها، أما الأمم المتحدة ومجالسها المختصة بما فيها مجلس الأمن فهي غائبة عن الحضور الفعلي سوى بالبيانات والتصريحات وهو ما يعني أن هناك صراعاً ما بين كل القوى الكبرى في السودان ولكن حتى اليوم يراد له أن يكون ضمنياً.
رابعاً- الخطير في هذا النزاع، أن القارة السمراء عموماً والسودان خصوصاً، كانت طبيعة الصراعات فيها تتسم وتتم على أسس قبلية، الخطير اليوم أنه أصبحت تحصل بين مؤسسات، الجزء الأول منه تقليدي هو الجيش، والآخر غير تقليدي انضم مؤخراً للجيش، وهو ما يعني أن كلا الطرفين يملكان قدرات لوجستية وبشرية وسلطوية ومالية تمكنه من إطالة أمد الصراع لأبعد مدى ممكن.
إن استعراض كل من عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو لقدراتهم العسكرية، واستخدام القوة الفائضة وتقديم اعتذار عن قتل السودانيين، هي استعراضات هزيلة، لا تختلف عن الادعاءات الغربية برغبتها في حل النزاع، لأن هذه الدول هي قادرة على ذلك من خلال توقفها فقط عن بيع طرفي النزاع للأسلحة، ولكن امتلاك السودان لأكثر من ١٦٥٠ طناً من احتياطي الذهب ورغبة الكثير من هذه الدول لإقامة قواعد عسكرية لها على البحر الأحمر ولحسابات المصالح والنفوذ ليست من مصلحتها ذلك، والخشية على السودان من تمزق وخراب معد له عبر تدخل خارجي ينفذه الناتو على غرار ليبيا، وعلى كل من البرهان ودقلو إن أرادا فعلاً إنقاذ السودان وحياة السودانيين أن يتنحيا عن السلطة ويتفقا على شخصية سياسية تقود العملية السياسية من دون أي خلفية حزبية أو عسكرية.