رئيسي في دمشق وأردوغان بانتظار الموعد.. لا تضيعوا وقتكم فطريق التطبيع واضح!
| فراس عزيز ديب
لم تترك عطلةَ عيد الفطر الكثير منَ الوقت للحراكِ الدبلوماسي في المنطقة ليلتقطَ أنفاسه، وإن كانت الأنظار اتجهت جزئياً إلى دولةِ السودان التي افتُتح فيها حمام دمٍ جديد، إلا أن العين بقيَت على دمشق حيث لا تزال القضية الأهم التي فيما يبدو أنه يتوقف عليها الكثير من مآلاتِ التفاهمات العالقة، ويظل السؤال: متى ستتم المصالحة بين دمشق وأنقرة؟
تركَ الاجتماع الرباعي الأخير لوزراء الدفاع في كل من سورية وتركيا وروسيا وإيران انطباعاتٍ بأن هناك الكثير من العقبات تم تجاوزها لتحقيقِ مسار المصالحة، في الواقع وحسبَ مصادرَ مُطلعة، لم تخف أبداً الكثير من الإيجابيات التي حملها هذا الاجتماع بعيداً عن الشرط الأهم الذي وضعته القيادة السورية وهو انسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية المحتلة بما في ذلك إعادة جدولةِ هذا الانسحاب وفق ضماناتِ باقي الأطراف، هذه الإيجابية بالغت الجهات الرسمية التركية باستغلالها بما فيها وزارة الدفاع التركية التي تحدثت عن بدءِ مراحلَ تطبيعٍ بين البلدين، لكن ولأن الديبلوماسية السورية حتى في أوجِ الوجع، كانت ولا تزال تزنُ العبارات المتعلقة بخياراتِها بميزان الذهب، ردَّت بشكلٍ مباشر في اتصالٍ مع «الوطن» لتنفي مزاعمَ وزارة الدفاع التركية مؤكدة النقطة الأهم: «تطبيع العلاقات التركية السورية يعني الانسحاب التركي من الأراضي السورية».
إذن عُدنا إلى المربع الأول، مربع تبدو فيهِ الجمهورية العربية السورية تقف وحيدةً بالتمسك بهِ من مبدأ «صاحب الحق سلطان»، مع تعديلٍ جوهري لا يمكننا تجاهله هو إعادة فتح البوابة العربية لعودة العلاقات العربية مع دمشق وهو سلاح لطالما آمنت بهِ الدولة السورية ليكون عاملَ دعمٍ لها في خياراتها.
لكن ولأنَّ عودة العلاقات بين سورية وتركيا هي الشغل الشاغل لأغلبية الصحف ومراكز الدراسات بمن فيهم أولئكَ الذين نحترم أفكارهم وإن اختلفنا معهم، أو أولئكَ الذين ينشرون بأسماءَ وهمية لكن أسلوبهم بالهرطقة معروف، بدأت الكثير من الأقلام تجهَد للحديثِ عن ضغوطاتٍ تتعرض لها القيادة السورية من الحليفين الروسي والإيراني للقبولِ بالتطبيع قبل تحقيقِ شرط الانسحاب، وصولاً حتى إلى الادعاء بأن الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق يومَ الأربعاء القادم ويلتقي خلالها الرئيس بشار الأسد، تأتي ضمن سياق «الضغوطات».
إن مثل هذه التأويلات لا يمكن الأخذ بها لأن الزيارة مُبرمجة ويتم الإعداد لها منذ فترة، وهي الزيارة الأولى لرئيسٍ إيراني منذ أكثر من عقد من الزمن، كما أن من يعرف العقلية السورية يعرف تماماً أن حدود الموانة وصولاً إلى الضغوطات أياً كانت الجهة التي تمارسها، هو سلاحٌ فاشل، بل الأهم من ذلك أن سلاحاً كهذا سينقلب في مسار الثقة الشعبية إن تأكَّدَ حدوثه، بل دعونا نفكر بالسؤال الأهم الذي يعنيني كمواطنٍ عربي سوري: هل الشروط التي وضعتها القيادة السورية تحقق المصالح الوطنية؟
مبدئياً، لنعترِف بأن ما من بلدٍ تكمن مصلحتهُ في استمرارِ حالة الاحتقان مع بلدان الجوار، سورية تدرك تماماً أن هذا المبدأ هو جوهر سياساتها منذ نصفِ قرنٍ، هل كانت يوماً هي المعتدية؟ إذاً المبدأ مُتفق عليه لكن الخلاف على الكثيرِ من التفاصيل التي يراها كلٌّ حسب مصالحهِ، والقيادة السورية لم تخرج عن هذا السياق لأنها تريد رؤية هذه العودة من باب المصالح الوطنية لسورية وللشعب السوري، بمعنى آخر كان ولا يزال القرار السوري يؤكد أن اللقاء بين الرئيس بشار الأسد والرئيس رجب طيب أردوغان قد يحدث، لكن ليسَ كما يفهم البعض وفقَ «شروطٍ سورية» بل الأدق وفق شروطٍ يفرضها الاحترام المتبادل بين الدول والذي يأتي في مقدمتها احترام السيادة الوطنية لكلا البلدين، إن كانت سورية هي من تنتهك هذه السيادة التركية فإننا بما نمثل من الشعب السوري نطالب القيادة السورية باتخاذ كل الإجراءات التي تضمن تكريس هذا الاحترام، بما فيها عدم التدخل بالشأن التركي أو دعم جماعاتٍ انفصالية أو جماعات مصنفة إرهابياً إن كان هذا قد حدث! أما إن كان الجانب التركي هو الذي ينتهك السيادة السورية فينطبق عليهِ الأمر ذاته، هل من وضوح وتبسيط للمبدأ أكثر من ذلك؟ لماذا هناك من يسعى جاهداً لتحميل القيادة السورية مسؤولية «عدم السعي للحلحلة» على حين كل ما تقوم به هذه القيادة هو الدفاع عن المصالح الوطنية؟
في سياقٍ متصل هناك من يتحدث لجهةِ عامل الوقت في التعاطي مع مبدأ حدوث اللقاء المنتظر، هل سيكون قبل أم بعدَ الانتخابات التركية؟
حتى الآن لم يقدم أصحاب هذه الفرضية ما يدعم الدفاع عنها، فما الذي ستبدلهُ في خياراتِ الناخبين صورة تجمع الرئيس بشار الأسد بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان؟ هؤلاء ربما لا يستطيعون الهروب من فكرة أن السياق العام للأداء السياسي الرسمي في تركيا هو من أوصل السلطات الرسمية التركية لاحتياج صورة كهذه، بالتالي عليهم تبديل السياسات بخطواتٍ عملية وليسَ الأخذ بالشكليات، لأن صور لقاء كهذا يجب ألا تكون مادة في السباق الانتخابي، هذا الكلام يجب أن يقوله كل من يملك احتراماً للشعب التركي، كما أنها تضع مبتكريها أمام تناقضين اثنين:
التناقض الأول: ماذا لو حدث ما تتبناه استطلاعات الرأي حتى الآن التي تعطي الأرجحية لفوز مرشح المعارضة كمال كيلتشيدار أوغلو، ألا يعني ذلك حرجاً للجانب الرسمي السوري الذي سيكون قد تبنى موقفاً مسبقاً من شأنٍ داخلي تركي؟ تحديداً إن تصريحات المعارضة حتى الآن تبدو متوازنة وعقلانية بما يتعلق بالشأن السوري، كما أنها لم تكن هي المسؤولة عن هذا التدهور في العلاقات، على العكس فإن اتفاق أضنة الشهير بين سورية وتركيا تم في زمنِ الكماليين وليسَ زمن «العدالة والتنمية»، أما الحديث عن كونها معارضة أكثر ارتباطاً بـ«الأطلسي»، فهي كما قلنا سابقاً ونعيدها لاحقاً، فكرة جديرة بالسخرية عندما تقدم رجب طيب أردوغان كنقيضٍ لذلك!
التناقض الثاني: إذا كان أردوغان كما يقول البعض، لا يحتاج للقاء بعدَ فوزه بالانتخابات، لأنه عملياً سيكون متسلحاً بانتصارهِ الساحق على معارضيهِ في الداخل ولا تعنيهِ المصالحة مع سورية، فإن هذا الكلام يبدو منطقياً نوعاً ما لكنه أشبه بقراءة «لا تقربوا الصلاة»، لأنه يتجاهل الشق الثاني من الفرضية، فمن يضمن في السياق ذاته بعدَ حدوث اللقاء مع الرئيس الأسد ونجاحه في الانتخابات أنه سينفذ تعهداته بالانسحاب من الأراضي السورية؟ ألا تقتضي الواقعية أيضاً أن نقول إنه سيكون متسلحاً بانتصاره الانتخابي ما يعني أن هناك من دعم خياراته السياسية ولا يكترث إن طبع علاقاته مع سورية أم لا؟ لحد الآن لم تستطع أي جهة تقديم ضمانات منطقية بالانسحاب التركي بعد الانتخابات، أو على الأقل إقناعه بخطواتٍ عملية كمبادراتٍ لاستعادةِ الثقة لا أكثر، فلماذا يرفض حتى تطبيق الاتفاق الخاص بالطريق الدولي المعروف باسم طريق «M4»؟
يعلم الجميع بأن سورية قدمت خلال عقدٍ من الزمن ما لم يقدمه أي بلدٍ في هذا العالم بأقذر حربٍ عرفها العصر الحديث لأنها رفضت المساومة على مبادئها، إن قرار التطبيع مع محتل هو ليسَ قراراً تأخذه القيادة السورية انطلاقاً من مصالح العلاقات مع الحلفاء أو الجيران، هذا القرار يؤخذ انطلاقاً من مصالحنا كسوريين، نعترف بأن مصالحنا هي القيام بأفضل العلاقات مع الجانب التركي بمعزل عن شكل وآلية الحكم في إطار احترام السيادة للطرفين، القضية هنا ليست مزاج قيادة، بل خيارات شعب ومصالح دولة على هذا الأساس، لا تبدو سورية مستعجلة لحدوث هذا اللقاء، بمعزلٍ عن شكل الوساطات التي تجري فالمبدأ واضح، طريق التطبيع يبدأ من الانسحاب التركي وما تبقى مجرد تفاصيل لن تأخذَ المفاوضات عليها أكثر من ساعات.