قضايا وآراء

مبادرة «الإدارة الذاتية».. الماء البعيد لا يروي الظمأ

| عبد المنعم علي عيسى

تشي السياسات التي تنتهجها «الإدارة الذاتية» التي تمثل قوة أمر واقع في مناطق شرق الفرات، منذ أن بدأ الانفتاح العربي على دمشق ثم تعاظمه ما بعد الـ 6 من شباط المنصرم، أن هذه الأخيرة باتت تخشى أن يتعالى السيل فيجرف كل ما يقف في طريقه خصوصاً إذا ما كانت جذور «الواقف في الطريق» كما جذور «السراخس» ضعيفة الالتصاق بالتربة / البيئة التي تنمو فيها، و«الإدارة الذاتية» ما انفكت تبدي التشنج تلو الآخر بُعَيْدَ حصول كل جديد على طريق الانفتاح العربي آنف الذكر، لكن الفعل بلغ ذراه، من دون أدنى شك، في أعقاب البيان الصادر بعيد لقاء وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد بنظيره السعودي فيصل بن فرحان مطلع شهر نيسان الذي أكد على «ضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية لبسط سيادتها على أراضيها، وإنهاء تواجد الميليشيات المسلحة، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري»، والعبارة الأخيرة تحتوي إشارة صريحة لميليشيات « قوات سورية الديمقراطية – قسد» التي تصفها أدبيات السياسة السورية بـ«الميليشيات المسلحة» أقله حتى الآن، والعبارات الواردة في البيان أعلاه تضع «قسد» بالتأكيد ضمن الميليشيات التي يجب أن «يجري تفكيكها» لضمان بسط الدولة السورية سيادتها على كامل أراضيها، وعلى كامل ثرواتها «المسروقة» بدعم وإسناد منها.

في أتون الانهيارات الحاصلة على «جدران العزلة» التي فرضت على دمشق بقرار أميركي، وللتوقيت هنا مدلولاته الهامة، تقدمت «الإدارة الذاتية» بـ«مبادرة» يمكن القول إنها لا تحوي جديداً لجهة المرامي التي تضعها الأخيرة نصب عينيها منذ أن خرجت للعلن من رحم «التحالف الدولي» لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» العام 2014، وبنودها التسعة كانت تمثل تكراراً لطروحاتها التي كانت تسوق لها خلال جولاتها التفاوضية مع حكومة دمشق، ثم تروج لها من خلال وسائلها الإعلامية جنباً إلى جنب الوسائل الداعمة لها في المحيطين العربي والدولي، وفيها يمكن لحظ ثلاثة محاور، الأول يقوم على محاولة نفي التهم الموجهة لها من خلال «التأكيد على وحدة الأراضي السورية، والاستعداد للقاء الحكومة السورية والحوار معها»، ثم التشديد على «أهمية توزيع الثروات الطبيعية، والموارد الاقتصادية بشكل عادل»، والثاني يقوم على محاولة الشد بـ«الإقليمي» و«الدولي» واستشراف مواقفهما بعيد المتغيرات الكبرى الحاصلة على جزء وازن منهما تجاه المسألة السورية، وهذا يظهر بوضوح عبر «مطالبة الدول العربية والأمم المتحدة بلعب دور إيجابي وفاعل للبحث عن حل مشترك مع الحكومة السورية، وتسريع الجهود لرأب الصدع وإنهاء الصراع بما لا يتعارض مع قرار مجلس الأمن الدولي ذي الرقم 2254»، أما الثالث الذي يدعو إلى «تأسيس نظام ديمقراطي تعددي لا مركزي، واعتبار تجربة الإدارة الذاتية أنموذجاً جيداً للحل»، فهو صارخ بدرجة كبيرة حيث يصبح كل ما ورد في المبادرة «حشواً» يراد منه «تعويم المنتج» في حين أن «الزبدة» كلها تكمن فيه، فـ«الإدارة الذاتية» تريد تعميم «أنموذجها» لأنه ببساطة «أنموذج جيد للحل»، ثم إن «اللامركزية» هي الوصفة الناجعة للخروج من الأزمة التي تمثل «الإدارة الذاتية» إحدى أهم أسباب استمرارها، أقله في الشق الاقتصادي، عندما يسيطر مليون سوري على ما نسبته 85 بالمئة من النفط السوري، و60 بالمئة من القمح والقطن، فيحرمون ما لا يقل عن 22 مليوناً من ثروات بلادهم، والأخطر هو أنها تمارس «الكرم» على حساب أصحاب الحق عبر «العطايا» التي تقلها الصهاريج من حقول النفط السورية باتجاه القواعد الأميركية الرابضة على أراضي العراق.

يمكن القول إن «المبادرة» التي تقدمت بها «الإدارة الذاتية» في سياق «اللحاق بالركب» قبيل أن تبتعد القافلة هي محض «إنشائية» ولا جديد فيها يتناسب مع التحولات الجارية على الملف السوري، ومن خلالها لا يبدو أن ميليشيات «قسد» تبدي استعداداً لطلبها المزمن بـ«ضرورة الإقرار الدستوري بحيثية «قسد» والإدارة الذاتية» الذي لطالما شكل «صخرة» أمام جولات التفاوض المتقطعة ما بين ممثلين عن الإثنين وبين الحكومة السورية على مر السنوات السابقة، ومن المؤكد أن ذلك الطلب سيظل يفعل الفعل نفسه أمام جولات جديدة يمكن لها أن تحصل في السياق الذي تبديه دمشق والذي تحرص من خلاله على التعاطي مع تلك المسألة على أنها «وطنية» بدرجة لا يجوز فيها إعطاء أي مكون سوري «امتيازات» سيكون لها فعلها السلبي بمرور الوقت.

في أعقاب إطلاق «المبادرة» سربت وسائل إعلام قريبة من مطلقيها أخباراً تفيد بأن الفعل جرى «بالتنسيق مع الرياض» بل وأفادت تلك الوسائل أن الأخيرة اقترحت على دمشق، دمج ميليشيات «قسد» في صفوف الجيش العربي السوري، الأمر الذي نفته مصادر سعودية مطلعة، بل إن النفي طال «وجود أي تنسيق ما بين الرياض وبين «قسد» والإدارة الذاتية»، والراجح هو أن المسعى آنف الذكر كان يهدف لتغطية الطرف الحقيقي الذي جرى التنسيق معه قبيل إطلاق المبادرة، حيث تشير «ظلال الأحداث» إلى ذاك الطرف بوضوح، فواشنطن صاحبة مصلحة حقيقية في وقف التقارب الحاصل ما بين أنقرة ودمشق، ومن المؤكد أن فعلاً من نوع «الاندفاعة» التي تبديها «الإدارة الذاتية» تجاه هذي الأخيرة راهناً سيكون له أثره في ذلك التقارب.

إطلاق «الإدارة الذاتية» للغة المبادرات والحوار قد يكون، في العموم، أمراً إيجابياً وهو مطلوب، لكن لا يمكن لأي حوار أن يصل إلى مراميه المرجوة منه في ظل إصرار «قسد» وأخواتها على تدعيم «حبل المشيمة» الذي يربطها بواشنطن ومشاريعها التي لا مصلحة لـ«قسد»، في أن تلعب دور «الذراع» لتلك المشاريع، وقد تصبح تلك البنود التسعة كلها «إيجابية»، بل ويمكن التفاوض بشأنها شريطة أن يسبق الفعل إعلان يقول إن «الإدارة الذاتية هي مكون سوري أنتجته ظروف محددة شديدة التعقيد» وإن «تلك الظروف قد زالت» لكي يكون بوسع دمشق أن تبني على الشيء مقتضاه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن