استقاء الثقافة العربية
| د. نبيل طعمة
بناؤها تراتبيتها، من أين حضرت وتجمعت وبقيت خجولة، من تراكم عدم الاعتراف، أم من فعل ولم يفعل، قال ولم يقل، الشك قائم بين الحالتين، تخادع الذاكرة حاملها محدثة في العقل خلطاً يعود ليبحث فيها، ويفرز الشك من اليقين من خلال التركيز والانتباه إلى أن تصل إلى عين الحقيقة التي تريك أي الطرق سالكة، أو ستسلك، ومحاور الأفئدة وما تملك، وقبل أن تضع قدمك على أول مساربها، تسألك: هل تقدر على أن تحارب من أجل الوصول إلى هدفك؟ هل تحب الحرب بالقتال مستخدماً الأسلحة أو الكلمة أو الحكمة التي تمثل الإقناع والاقتناع؟ ولحظة محاولتك للمسير، هل تعلم بأنك تسير ضمن قناعتك المؤمنة في حقك الذي يوصلك إلى الأمام وعدم بقائك حيث أنت، أو تعلم عن تراجعك بشكل خاص مع إيمانك بأنك في عالم يطلق عليه التخلف أو الحبو نحو النمو، وفهمك العميق لمغزى تدخل الآخر في شؤونك، فإذا أدركت؟ وصلت وحصلت وتواصلت مع كل ما يجري معك وحولك وما يصيبك من مآس، وتتعرف من كل ذلك بأن الله لا دخل له في كل ما يجري، إنما نحن البشر نصنع الخير والشر، ونرمي بهما في بحيرات الاختيار، وليصطاد من يريد ما يريد، وبعد ذلك تقرر بأنك إنسان أو بشر تنتمي لمجموعة، وعالم أو عوالم تختار ما تعتنق من مبادئ وقيم، وأفكار الحرب والسلم وما بينهما الاستقرار، الاستمرار، البقاء مع التخلف، السعي نحو التقدم والتطور، تتوضح بعدها ومن خلال قراءة الأحداث مفاهيم الاتجاه للتغيير، لتقدير المصير، لتحديد الاتجاه، لرسم الشخصية التي ينبغي أن نكون تابعين مريدين ومحررين من القيود، مؤمنين وجوديين ملحدين، ماذا نريد، وإلى أين نسعى أن نكون لحظات تقرير المصير، ترسمها الأحداث، وتبني من خلالها صورة ما سيحضر من القادم الذاهبين إليه.
النصر حليف دائم لأولئك الذين يخوضون الحروب بثقة وقوة وإيمان، بأنه لن يخذلهم بعيداً عن الحب والكراهية والعواطف ومنح الثقة إلى هنا أو هناك، فإذا أردنا الوصول لذلك فعلينا التخلص من تلك الأمثال التي غرزها المستغلون لنا ولقدراتنا ومواردنا من ذاك الموغل في القدم، فهل نعي وندرك ما نتناوله من أحاديث، ونتداول من أمثال فيما بيننا، وتلك الأهازيج التي يتداولها الأطفال في الأعياد، مثل يا أولاد محارب يجيبون بـ (لو لو) شدوا القوالب (لولو) إلى نهايتها التي يغفل الكثيرون عن مقاصدها الخبيثة، وفيروز عندما تغني أجراس العودة فلتقرع، ويجيبها مظفر النواب عفواً فيروز ومعذرة أجراس العودة لن تقرع، وكثير من أغانينا وتيماتها العبرية، وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، والذي يسبق يأكل البندق، ويلي طالع الحمار على المئذنة ينزله، وألف عين تبكي ولا عيني، وبيضة اليوم ولا دجاجة الغد، وعصفور باليد ولا عشرة على الشجرة، وضع في يدي ولك ما شئت من خلفي، وإذا رأيت الأعمى طبه لست بأكرم من ربه، فالمسيحي يحذر أبناءه من الخروج إلى الحارة، كي لا يخطفه الآخر على حين غفلة، والمسلم يخاطب أبناءه ناصحاً بالانتباه من اليهودي الذي سيأخذه إلى سريره الأبري من أجل تحضير كعكة الفطير، حط رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس، وإذا جن شعبك جن معه، سياسة دبر رأسك ولا تدع أحداً يمسك بك، وخذ من ملتك كي لا تموت بعلتك، ويداك أوكتا وفوك نفخ، والكثير الكثير من لغة التفرقة وتعزيز الأنا، والتقوقع والفرز الطائفي الذي مر ويمر بنا من دون أن نعي المغازي العميقة منها، هلّا تفكرنا في ذاك المحتل والمعتدي الذي أوجد كل ذلك من أجل أن يحصد دائماً النتائج، من خلال الأحداث التي تتكرر كل ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، من طوشة النصارى والحروب القديمة بين الطوائف والمذاهب وتشجيع على استعار أتونها كي لا تهدأ، واشتعالها بين الفينة والأخرى، ألا ينبغي أن نستيقظ مما نحن فيه وعليه، نستحضر الواقع فنعلم أننا موجودون فيه أولاً، وثانياً نفهم ماهية ما يحدث وارتباطاته بما أسكن في عقولنا من تعاليم رسمت بدقة من أجلنا، نأخذ بها بوعي الخبث أو بجهل الواقع.
السؤال الكبير الصغير الدقيق والواقعي نطرحه بغاية إعلامنا عن مسؤولية من، استمرار هذه المفردات الملعونة والمبرمجة وتداولها بين جمهرة الناس على اختلاف مشاربهم ومواقعهم، ومن جيل إلى جيل، ألا يدعونا كل ذلك للتأمل فيما نحن عليه والاتجاه مباشرة إلى بناء ثقافة الجمع والـ نحن، والعمل الحثيث لمحو تلك الأميات الاجتماعية والدينية التي تحولت على ما يبدو إلى أدبيات استوطنت حيزاً كبيراً من ثقافتنا، ونعود لبناء أسس تربوية خلاقة ومبدعة، ماذا يعني لنا الاستثمار في البشر الذي يقع على عاتقه إعادة بناء الحجر؟ وأكثر من ذلك الإبداع في حركته ومسيره وكامل المساعدات والمؤثرات المحيطة لخدمته، والإيمان النوعي بأنها تخدم غيره من المحيط القريب والبعيد.
في نهاية الأسبوع الماضي اجتمع مولد الرسول العربي محمد عليه السلام، وميلاد السيد المسيح، وفي العام الذي مضى كانا قريبين من بعضهما، وهذا لا يحدث إلا كل 457 سنة، مصادفة مميزة كيف احتفينا بهما، وكيف أنَّ العالم سيحتفي غداً بولادة عام جديد 2016، ولولا أنهما قدما ما لا يستطيع من البشر تقديمه، فهل كانا حققا هذا الحضور، وهما البنّاءان اللذان صنعا أمتين؛ المسيحية أولاً، والمحمدية الإسلامية ثانياً، وقبلهما طبعاً اليهودية الموسوية، وما قدمه الثلاثة من رسالات شكلت مثلثاً دقيقاً للقداسة الحقة التي كانت غايتها الوحيدة طهر الإنسان من الدنس، وسماحته أمام أخيه الإنسان، هلّا توقفنا مع ما قدموه، وتذاكرنا ما أرادوا أن يوصلوه لنا؟ أم إنها احتفاليات تمر وتنسى، حتى تحضر في عامها القادم وهكذا دواليك؟ هلا عرفنا من أين نستقي ثقافتنا وماهية مرتكزاتها، كل عام لجميعنا وأنتم بألف خير، وسنة جديدة نخلص بها مما ركب على ثقافاتنا.