شعرت بالبرد الشديد يتغلغل في كل مسامات الجسد، بلغت درجة التجمد مرتبة الصفر عندما استقرت في أعمق أعماق القلب، ألم يحذرونا من عقارب نيسان؟
بحثت عن الحل في مستودع صغير في البيت، هو ليس مستودعاً تماماً، بل هو زاوية مهملة نرمي فيها الأشياء الفائضة على الحاجة، والتي ليس لأغلبها حاجة، نختزنها فقط لتأكيد نظرية علة النفس القائلة بــ«الاختزان القهري»!
المهم أنني وجدت فأساً عتيقاً علاه الصدأ، فنظفته ومن ثم أخذته إلى المجلّخ الأفغاني، فالأفغان مشهورون بسن السكاكين والمقصات وسواها، وسن الفأس بعناية وتركيز فأعاد إليه الشباب، أو نصف الشباب.
توجهت بعدها إلى الغابة الصغيرة القريبة، أو التي كانت يوماً غابة كبيرة، لكن «حضارتنا المزيفة» ابتلعتها، رفعت الفأس وهويت به على شجرة متوسطة الحجم تكفيني للتدفئة والطبخ وغير ذلك لبقية الشتاء وحتى للشتاء القادم.
في اللحظة التي لامس فيها الفأس الشجرة توقفت فجأة، وتذكرت فيلماً عرض منه التلفزيون عشر دقائق منه قبل سنوات عديدة، لم أعرف اسم الفيلم أو«بلد المنشأ»!
لماذا توقفت؟ وما محتوى وموضوع الفيلم الذي أجبرني على الامتناع عن «قصف عمر» الشجرة؟.. باختصار: المشهد المهيب الذي جعل القائمين على التلفزيون يوقفون عرض التلفزيون فوراً يشبه المشهد الذي أنا فيه تماماً.
حطاب يهوي على شجرة مسنة بفأسه فيسمع تأوهات وعويلاً وما يشبه الاستغاثة، فيتلفت حوله ولا يجد شيئاً أو أحداً يستغيث، يعاود الكرّة مرة أخرى فتزداد التأوهات والعويل إلى درجة البكاء!
يكتشف الحطاب أن صوت التأوهات يأتي من الشجرة التي يحاول قطعها، أما العويل الذي ملأ الغابة ضجيجاً وصخباً فهو عويل الشجر الذي انتصر للشجرة المستهدفة بالقطع، وكأنه يرجو الحطاب التوقف عن قطعها.
لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك، هل توقف الحطاب عن محاولات قطع الشجرة، أم إن الحاجة إلى المال والدفء غلبته واستمر في قطع الشجرة.
هل للأشجار والنباتات والورود وبقية المخلوقات أرواح، ويأتي الإنسان على اغتيالها وقتلها ليأكل ثمارها ويتدفأ بحطبها، أو نزين فيها أعراسنا، ومن ثم نسحقها بأقدامنا؟ تلك كانت على ما أعتقد هي رسالة الفيلم الذي قد تكون جماعات حماية البيئة وراء صنعه وتصديره إلى العالم الذي يوقف البعض بثه.
أيقظني كهل من شرودي قائلاً: هذه الأشجار رئة المدينة فلا تقطع عن الناس الهواء! فخجلت من نفسي وعدت أدراجي وبدأت أبحث عن البدائل.
تذكرت مسرحية «الأشجار تموت واقفة» للشاعر الإسباني أليخاندرو كاسونا التي شاهدتها على مسرح الحمراء منذ سنوات بطولة ثناء دبسي ومحمود جركس وعبد المولى غميض وآخرين، وتذكرت الحملات الإسرائيلية على أشجار الزيتون وبيارات الليمون والبرتقال في الأراضي المحتلة، فقد كانت سلطات الاحتلال تقتلع الأشجار من جذورها في رسالة بأنها ستقتلع الشعب الفلسطيني من جذوره، وهو ما لم يحصل ولن يحصل يوماً، فقد اتحدت أرواح البشر مع أرواح الشجر لتصنع بطولة المقاومة والتجذر في تراب الوطن.
لكن.. أعود إلى ما بدأت به: هل للأشجار أرواح كبقية المخلوقات؟
ترى، لو سمع أبو العلاء المعري أن للأشجار والنباتات أرواحاً هل كان سيحرم على نفسه الثمار والفواكه والخضراوات كما حرم على نفسه سابقاً اللحوم والحليب ومشتقاته وسواها، أم كان سيتراجع ويتناول البروستد والمسحب والمشاوي والشاورما الممنوعة اليوم على فقراء سورية، وهم الأغلبية الساحقة، هم الشعب؟.