يقول نجيب محفوظ في أحد لقاءاته الصحفية «انعكست حياتي في الطفولة في (الثلاثية) وفي (حكايات حارتنا) ثم انتقلت إلى العباسية عام 1924 وعمري اثنتا عشرة سنة، وظلّ المكان الذي بقيت مشدوداً إليه هو منطقة الجمالية، ظل حنيني إليها قوياً، ولم يكن ممكناً الراحة من الحنين إلا بالكتابة عنها».
وُلد نجيب محفوظ في الجمالية، وبالتحديد في بيت القاضي، وتعلّم منذ نعومة أظفاره الإصغاء عميقاً لصمت الجدران العتيقة، ونبض الشارع، وتظهر عناوين رواياته هيمنة المكان على أعماله (خان الخليلي سنة 1946، زقاق المدق 1947، وبداية ونهاية 1949)، وظلت مصر التاريخية في مخيلته، استوحى من الحارة (حكاية حارتنا) و(ملحمة الحرافيش) التي دارت عن الفقراء والصعاليك في مكان محاذ لجبل المقصم و(بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية)، واختار نجيب محفوظ الإطار المكاني الذي يضم ويتسع لنماذج مختلفة يحفل بها الحي الذي وُلد فيه، في بيت القاضي، والصراع الذي يدور بين المصري والأفكار في عوالم مختلفة جنباً إلى جنب، ولم يعد الأشخاص والأحداث مطلوبين، لذاتهما، بل صار أقرب إلى الرموز والمكان أصبح الخلفية لفترة الأحداث يؤثر فيها ويتأثر بها، يجمع بين الواقع الدنيوي والخالد السرمدي.
وإذا أخذنا بعض الأمثلة عن تأثير المكان في أعمال محفوظ نجد شخصية الإمام (الحسين) تهيمن على المكان، فالإمام الحسين عليه السلام، شخصية حية في أعماله، ضريحاً ومسجداً ومكاناً، توارى المكان وبقي الإمام (الحسين) شامخاً مهيمناً على الحي الذي كان يعيش فيه، وواضح في (الثلاثية) تأثيره في هذا العمل، فالحسين المسجد والحي وحدة متماسكة وحياة كاملة، فالمسجد هو رمز الحي ومقصد المحبين والزائرين والداعين والمريدين، وإذا كانت مئذنة الحسين هي إحدى المآذن التي توقظ الناس من النوم فإن هذه المئذنة أيضاً في علوها الشامخ تبارك ما حولها.
وعُرف عن (نجيب محفوظ) ارتياد المقاهي وهو أشهر الكتّاب جلوساً على مقاهي القاهرة والإسكندرية، ومقهى الفيشاوي في خان الخليل هو المميز عنده، فهو مكان له خصوصيته وعبقه الشعبي وملتقى لنماذج من البشر، والمقهى من مكونات الكثير من أعماله التي تتشابك مع الأحداث.
ونذكر هنا: (مقهى زقاق المدق، مقهى خان الخليل، مقهى محمد عبده في السكرية، مقهى الكرنك، مقهى قشتمر) فالمقهى هو من بين صور تحسين واقع الحياة في القاهرة وفيه يمكن التعرف على نماذج البشر وصراع المصائر والأقدار.