ثقافة وفن

عيد الميلاد كما رآه عمالقة الأدب الروسي .. كانت نجمة بيت لحم تعاين المولود الراقد في المهد

| مها محفوض محمد

أغلبية الروس يحتفلون بعيد الميلاد في 7 كانون الثاني لأن الكنيسة الأرثوذكسية تتبع التقويم الذي وضعه يوليوس قيصر عام 46 ق.م غير أن الأطفال الروس الذين لا صبر لهم في استقبال الهدايا لا يستطيعون انتظار هذا التاريخ المقدر فيقايضون مع عيد العام الجديد بينما الميلاد هو مناسبة دينية احتفالية تأتي لتختم موسم الأعياد والاحتفالات بعيد الميلاد الأرثوذكسي الذي يبدأ فعلياً ليلة السادس من كانون الثاني حين يذهب الناس لحضور قداس العيد قبل كسر الصيام ثم توزيع الكوتيا (طبق حبوب محلي) يقدم على طريقة القديسة «Cène» حيث يتم تحضيره في اثني عشر طبقاً وفقاً لعدد تلامذة السيد المسيح لكن فقط بعد أن تظهر أول نجمة في السماء، وعشية سهرة الميلاد هذا العام عادت مؤسسة RBTH الثقافية الروسية إلى تقاليد هذا العيد التي أول ما ظهرت عند عائلة رومانوف القيصرية وإلى الهدايا التي كانت تقدم في القصر، فتقاليد الاحتفال بهذه الليلة وشجرة الميلاد ظهرت في البلاط الروسي في عهد نيكولا الأول بفضل زوجته الأميرة شارلوت دوبروس حيث كان ينظم الحفل ليلة الميلاد فور انتهاء قداس الليل في صالة الإنشاد الموسيقي في المبنى المستدير للقصر الشتوي ولكل فرد من العائلة توضع شجرة خاصة به تقام بجانب طاولة عليها غطاء أبيض مملوء بالهدايا وكانت البارونة ماريا فريدريك تقف وراء الأبواب المغلقة لتدخل أولاد العائلة بمن فيهم أولاد القيصر إلى القاعة لاستلام الهدايا، وهكذا استمر تنظيم حفلات الميلاد بعد موت نيكولا الأول، ولكن تغيّر المكان، ففي عهد الكسندر الثاني أصبح إحياء ليلة الميلاد في القاعة الذهبية في القصر الشتوي وكان ولده الكسندر الثالث يفضل قصر كاتشينا حيث توضع شجيرات الميلاد في القاعة الصفراء أو الأرجوانية، بينما نيكولا الثاني كان يقضي الليلة في قصر ألكسندر في تسارسكوي سيلو (التي تشكل جزءاً من سان بطرسبورغ اليوم) وتتوج أشجار الميلاد بالشموع المضاءة وتوضع بجانبها الألعاب المطلية بالذهب والفضة ولم ينتقل الاحتفال إلى عامة الشعب إلا في عام 1907 حين نزل القيصر مع أولاده والدوقة أولغا ألكسندروفنا ومعهم جيش من الحراس إلى ساحة جمعوا فيها الناس والأطفال ووزعوا عليهم أوراقاً مرقمة لإجراء القرعة للفوز بالهدايا وكان الحراس يأتون بالهدية إلى أولغا كي تقوم بتسليمها إلى الفائز ذلك لأن توزيع الهدايا بهذه الطريقة كان أمراً مسلياً لابن القيصر خاصة حين ربح أحدهم ساعة منبه فوضعها الحراس ترن أمامه ليستمتع برنينها قبل تسليمها للفائز.
لقد تركت أجواء عيد الميلاد هذه في ترفها عند القيصر وألمها عند الجماهير المهانة أثراً عميقاً لدى الكثير من الأدباء الروس عبر القرون، فقدموا أعمالاً رائعة في تصوير حياة أولئك الناس من الطبقات المسحوقة ووصف آلامهم كما فعل الكاتب فيودور دوستويفسكي الناقد اللاذع الذي كثيراً ما لفت انتباه القارئ إلى حال الفقراء في تلك المرحلة كوصفه للصبي الفقير في ليلة الميلاد وسط أجواء احتفالات المدينة حين يخرج من القبو الذي يقطنه مع والدته «الباردة كالجدار» حسب وصف الكاتب فيذهل الطفل حين يرى زينة المدينة ويمشي متثاقلاً بين الواجهات التي تعرض شجيرات الميلاد والألعاب وأطباق الحلوى بأنواعها المختلفة باللوز وألوانها الحمراء والصفراء غير أن ازدحام الناس يبعد الصبي فيرتمي على الأرض من آلام بطنه وشدة البرد القاسي يتكور في الساحة ويتلوى من الألم المبرح وبالكاد يفتح عينيه فيرى شجرة الميلاد في وجوه الأطفال الفرحين الذين أحاطوا به وتحلق بعضهم حوله يقبلونه عله ينهض، لكن ما حصل أن الطفل مات من البرد والألم ورفاقه الجدد ليسوا هؤلاء بل الأشقياء مثله الذي يقتلهم برد روسيا القاسي.
ولهذه الليلة حكايتها أيضاً عند معلم الدهاء في القرن التاسع عشر نيكولاي غوغول في إحدى قصصه الشعبية «في ليلة الميلاد» حيث يتمثل الشيطان بذاته مستفيداً من تلك الليلة الفريدة ليحوم حول الناس الطيبين وينفخ الأفكار السيئة في عقولهم كما يقرر ذات ليلة مغطاة بالثلج أن يختلس القمر من صفاء السماء ويزرع الفوضى في القرية قرب ديكانكا أما الفرسان المحليون فهم في بيوتهم يأكلون الكوتيا مع عائلاتهم وفي غضون ذلك ينسحب أعيان القوم في المدينة الواحد تلو الآخر إلى بيت أرملة ماكرة وينتهي بهم المطاف إلى الاختباء من دون احتراس في أكياس من الفحم.
طبعاً هي قصة خرافية من نسج خيال غوغول تستتر فيها الحيل ويتأوج التحليق السحري في سان بطرسبورغ للوصول إلى اختلاس خفَّي القيصر ليلة الميلاد فتظهر عند غوغول خاصية الهجاء اللاذع حيث يسخر من الهوة الفاصلة بين الطيبة عند العامة وفساد الأخلاق عند الخاصة.
وليست الحال أفضل في الطرف الآخر من مراتب المجتمع كما يصور الأديب بوريس باسترناك في روايته الشهيرة «دكتور جيفاغو» التي تجري أحداثها في الأوساط الثرية في موسكو بداية القرن العشرين وفيها مشاهد من عيد الميلاد أيضاً حين تصل البطلة لارا في تلك السهرة وهي مصممة على تحدي المحامي كوماروفسكي الرجل المشبوه بنزاهته ويريد أن يقيم علاقة معها، يقول باسترناك: «يدور الراقصون ويستديرون حول أنفسهم بطريقة مدوخة أمام شجرة الميلاد التي تتنسم تحت الطبقات المضيئة فيها وبأناقتهم وحليهم يباشر المدعوون بالتهام ثمار المندرين وأطباق أخرى لذيذة كما يلعب كوماروفسكي لعبة الورق في صالون بومبيي وتصل الحفلة الراقصة إلى أوجها لتتوقف مشاركة الجميع فجأة حين يعلن أن لارا تحمل مسدساً»، أي إن هناك استعارة كاملة في توضيح القفزات الفجائية بين الألم الشخصي والسذاجة.
أما جوزيف برودسكي الشاعر الحائز جائزة نوبل للآداب فقد أنشد الميلاد شعراً حيث كان كل عام يحيي تلك الليلة بقصيدة ويروي قصة اللحظات الأولى من ولادة الطفل يسوع:
في فترة باردة وفي منطقة اعتادت القيظ
أكثر من البرودة وعلى أرض مستوية غير مرتفعة
ولد رضيع في مغارة كي ينقذ العالم
حيث العاصفة عاتية لا تشهدها الصحراء إلا شتاءً
وكانت نجمة بيت لحم تعاين المولود الراقد في المهد
فعند برودوسكي يختلف الأمر إذ تبدو رغبته في تجاوز وصف الطقوس وفرح الناس وآلامهم وفظاظة الآخرين كما لا يجوز تسويق عيد الميلاد الذي يرسل إلينا بكل بساطة رسالة المحبة والوئام والتطابق مع الغير والأريحية فبالنسبة إليه هذا هو المهم أياً تكن قناعاتنا الدينية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن