هي أنبل حالة إنسانية عرفها البشر، ففيها الكثير من العطاء الذي لا ينتظر بديلاً مادياً، هي الموت دفاعاً عن قضية ما، هي تضحية المرء بروحه في سبيل الوطن إنها الشهادة، فالشهداء رجالٌ ضحوا بأرواحهم ليعيش إخوانهم وأبناء جلدتهم بأمان وكرامة، وتكريماً لهم وفخراً ببطولاتهم التي جسدت أسمى معاني التضحية والفداء، يحتفل وطننا الحبيب في السادس من أيار من كل عام بالموقف الذي اختاروه طواعية، ليمهدوا طريق الوطن ويحتفي بأولائك الذين قدموا الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على سلامة الآخرين ووحدة أراضيهم، وكان سبب اختيار هذا اليوم هو عقوبة الإعدام الجماعية التي نفذتها السلطات العثمانية في كل من سورية ولبنان 1916.
مكانة رفيعة
بدمائهم يحملون الخير والحب للوطن، نفوسهم تحمل نقاء نهري دجلة والفرات، أدوا واجبهم الوطني بكل بسالة، وسلبت المعارك والحروب منهم أحلامهم وآمالهم، ليعودوا بعدها لأهلهم في أكفان بيضاء كبياض قلوبهم وأحلامهم، ووفاء لهم وإبرازاً للمعاني السامية للشهادة نظم العديد من القصائد الشعرية التي تخلد مناقبهم وبسالتهم في الدفاع عن أوطانهم، وقد أشاد الكثير بأدوارهم البطولية، فهم مثال حقيقي للشجاعة والتضحية إضافة إلى الكثير من البحوث والدراسات وإفراد الكثير من الكتب التي تمجد معركة ما أو ترثي شهيداً أو قائداً عسكرياً.
وقد تغنى الشعراء العرب منذ القدم بالبطولة والتضحية، وأن للشاعر سميح القاسم قصيدة من أجمل القصائد التي حفظناها وترعرعنا عليها، درسناها في المدارس الابتدائية وكان يبثها التلفزيون الرسمي مراراً كثيرة ولاسيما قبل اتساع رقعة الأقمار الصناعية فكانت رفيق طفولتنا والتي يقول فيها:
خلو الشهيـد مكفنـاً بثيابـه…. خلوه في السفح الخبيـر بما بـه
لا تدفنوه.. وفي شفـاه جراحـه… تدوي وصيـة حبـه وعذابـه
هل تسمعون؟ دعوه نسراً داميـاً…. بين الصخور يغيب عن أحبابـه
خلوه تحت الشمس تحضن وجهه… ريح مطيبـة بـأرض شبابـه
شهيد ميسلون
بعد أن خاضت بلادنا معارك الرفض، وتأهّبَ لحماية حدودها الشجعان، تستلهم الأجيال الجديدة روح الفداء من قصص وبطولات الشهداء التي سطرها التاريخ بحروف من نور، وستظل هذه التضحيات خالدة في صفحات التاريخ، وتحضر في كل مناسبة للتأكيد على فكرة العطاء من دون مقابل، والتضحية بالروح من أجل كرامة الوطن، وفي استعراض بعض من صفحات مجد الشهداء لابد أن نتوقف عند الشهيد يوسف العظمة الذي استشهد في مواجهة الجيش الفرنسي الذي قدم لاحتلال سورية ولبنان، وقد قيل الكثير من الشعر في معركة ميسلون عن الشعب الغاضب الثائر، وكان الشاعر خير الدين الزركلي ممن كتب عن ذاك اليوم البغيض حيث بقيت ملامحه مرسومة في أذهان الشعراء الذين عايشوا تلك الفترة فيقول:
الله للحدثان كيف تكيد
بردى يغيض وقاسيون يميدُ
تفد الخطوب على الشعوب مغيرة
لا الزجر يدفعها ولا التنديدُ
بَلَد تبوّأه الشقاء فكلَّما
قدم استقام له به تجديدُ
لهفي على وطن يجوس خلاله
شُذَّاذ آفاق شراذم سود!
كما لم تخل قصائد الشاعر اللبناني جبران خليل جبران من رثاء الشهداء وتخليد حكاياتهم والتغني بانتصاراتهم والإشادة بدورهم العظيم الذي أدوه، فكان مما كتبه في هذا الصدد:
اليوم يوم مصارع الشهداء
هل في جوانبه رشاش دماء
لله غياب حضور في النهى
ماتوا فباتوا أخلد الأحياء
أبطال تفدية لقوا جهد الأذى
في اللـه وامتنعوا من الإيذاء
بعداء صيت ما توخوا شهرة
لكن قضوا في ذلة وعناء
لبثوا على إيمانهم ويد الردى
تهوي بتلك الأرؤس الشماء
قائد السنوسية
ويخاطب الشاعر أحمد شوقي روح الشهيد الليبي عمر المختار الذي أعدمه الاحتلال الإيطالي في صحراء سلوق بعد صولات وجولات ومعارك كثيرة خاضها ضدهم فيقول شوقي:
يا ويحهم نصبوا مناراً من دم
يوحي إلى جيل الغد البغضـاء
ركزوا رفاتك في الرمال لواءَ
يستنهض الوادي صباح مساءَ
تلك الصحارى غمد كل مهندٍ
أبلى فأحسن في العدو بلاء
جرح يصيح على المدى وضحية
تتلمس الحرية الحمراء
إن البطولة أن تموت من الظما
ليس البطولة أن تعبّ الماء
خُيّرتَ فاخترتَ المبيت على الطوى
لم تبن جاهاً أو تلم ثراء