نفذت محافظة دمشق إنذارها بإخلاء الأرصفة في دمشق من البسطات، وأجبرت عدداً كبيراً ممن يعتاشون من هذه البسطات على التواري (المؤقت)، إذ سرعان ما ظهروا بأشكال مختلفة، مساء أو يوم الجمعة أو من خلال بيع بضاعتهم على الشاحنات التي يستخدمونها عادة في الانتقال من سوق الجملة إلى الأرصفة.
خطوة المحافظة جديدة لجهة وجود محافظ جديد، لكنها عملياً قديمة جداً جداً وعمرها من عمر الأرصفة والبطالة المقنعة واقتصاد الظل.
هل ستنجح…؟ لا أظن للأسباب التالية:
1- لم تسبق بتحضير جيد. لقد تحدثت المحافظة قبل عدة أشهر عن ساحات تفاعلية سينقل إليها أصحاب البسطات، لكنها حتى الآن، لم تجهز تلك الساحات. ولئن أعلنت عن إحدى عشرة ساحة، فإن العدد قليل بدلالة وجود 16 دائرة خدمات في دمشق وعلى الأقل لابد من ساحة لكل دائرة وهذا أضعف الإيمان.
2- تنتظر المحافظة من أصحاب البسطات أن يأتوا إليها وأن يطلبوا ترخيص حيز لهم في تلك الساحات، علماً أن أغلبهم يعمل مجاناً منذ عشر سنوات على الأقل، وأغلبهم يدّعي بأنه لم يسمع لا بالساحات ولا بتلك الدعوة، ما يحتم البحث عن طريقة للتواصل، وعقد اجتماع في كل دائرة خدمات أو نشر قرار يتضمن إجراءات الترخيص.
3- من المؤسف أن المحافظة لا تملك أرقاماً ولا معلومات عن عدد البسطات.
هي تكتفي بالقول إنه كبير جداً، ولا تعرف عدد زبائنهم، وكم طناً من السلع والبضائع والمحاصيل يبيعون في اليوم الواحد، وكيف سيؤثر هذا القرار على تموين الناس وحصولهم على احتياجاتهم بسعر أقل، في زمن البحث الحثيث عن السعر الأقل وسط الضائقة المالية الشديدة لذوي الدخل المحدود.
4- كل هذه المعلومات كان يجب أن تتوافر وكل الإجراءات كان يجب أن تتخذ، حتى لا تفشل الخطوة، التي ظلت حلماً لعقود كثيرة، ولاسيما أن فشلها سيئ جداً، وانعكاساته السلبية على هيبة مؤسسة رسمية بحجم المحافظة ستكون فادحة.
أيعقل أن أصحاب القرار في المحافظة، لم يسمعوا بالأسواق الشعبية، المنتشرة في الدول المتقدمة، وهي البديل من فوضى البسطات؟
في أغلب مدن تلك الدول المكتظة بالسكان (12 مليون نسمة أحياناً وربما أكثر ) يوجد لكل شارع في دائرة الخدمات سوقه الشعبي لمدة يومين في الأسبوع. وثمة أكثر من شارع في الدائرة الواحدة وبهذا المعنى، فإن الباعة لا يتوقفون عن العمل طيلة أيام الأسبوع، فقط ينتقلون إلى شارع آخر. والأسواق على الأرصفة، وهي مغطاة بشوادر ترتفع على أعمدة قابلة للفك والتركيب بسرعة، وهي تحمي من الأمطار ومن الشمس الحارقة. وتبيع بسطات تلك الأسواق، الخضر والفواكه، واللحوم الحمراء والبيضاء، والأجبان والألبان، والخردوات وأدوات المطبخ والملابس المتنوعة للنساء والرجال والأطفال. ويستمر الدوام فيها من الثامنة صباحاً وحتى الثانية بعد الظهر. بعد رحيل الباعة تأتي آليات دائرة الخدمات، ترحل النفايات وتشطف الأرصفة والشارع المغلق أمام حركة السير فيعود في أبهى حالاته.
يسدد البائع أجور إشغاله لهذا الحيز لدائرة الخدمات، ويمنع على أي بائع غير مرخص العمل ويعاقب مالياً ثم بالحبس في حال التكرار عدة مرات.
إن فرق السعر بين السوق الشعبي الأوروبي (المارشية) والبقاليات يصل إلى 100 بالمئة وبينه وبين السوبرماركات الكبيرة 30-50 بالمئة ولهذا فإن الإقبال عليه كبير جداً. والأرصفة في باريس- مثلاً- ليست أعرض من أرصفتنا وتحتوي على محال لكل المهن، من دون أن يتذمر أحد من السوق الشعبي الذي بات جزءاً لا يتجزأ من سيرة الحياة الاقتصادية للناس والباعة.
ليست هذه أول مرة نتحدث فيها عن الأسواق الشعبية في العالم، في آسيا وأميركا وأوروبا. وأظن أن هناك من شاهدها من أصحاب القرار في محافظة دمشق وغيرها من محافظاتنا، إننا ننصح بها كإجراء دائم وحضاري، ولعلنا اقتربنا منها عبر الساحات، ولكن: اعملوا.