قضايا وآراء

«رومانسكي خانم»!

| أحمد ضيف الله

الآنسة غيرترود بيل «مس بيل»، الباحثة والمستكشفة وعالمة الآثار البريطانية، التي تتقن اللغتين العربية والفارسية، إلى جانب العديد من اللغات الأخرى، سخرت علمها وما اكتسبته من خبرة في التنقيب عن آثار حضارات وادي الرافدين في خدمة الحكومة البريطانية كجاسوسة.

«مس بيل» عملت مع «تي إي لورانس»، المعروف باسم «لورنس العرب» وجواسيس آخرين في أثناء الحرب العالمية الأولى في «المكتب العربي» الذي هو أحد أقسام المخابرات البريطانية في القاهرة، وقد كانت المرأة الوحيدة، وأحد الخبراء الـ39 الذين دعاهم وزير المستعمرات البريطانية آنذاك وينستون تشرتشل للتشاور معهم حول مخطط تقسيم الشرق الأوسط، ورسم حدود الدول القومية في المنطقة.

في الـ10 من آذار 1917، وعندما استولت القوات البريطانية على بغداد، استدعى المندوب السامي السير بيرسي كوكس، «مس بيل» للعمل معه كسكرتيرة، وكحلقة وصل بين البريطانيين وقادة القبائل في المنطقة.

«مس بيل» الجاسوسة البريطانية التي يلقبها العراقيون بـ«الخاتون»، هي صاحبة اقتراح إنشاء مجلس تأسيسي للدولة العراقية، بهدف تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، الذي قدر جهودها، وعينها وكيل وزارة في الإدارة العراقية، لتنوب عنه في استقبال شيوخ العشائر والمسؤولين العرب، ناشطة في تعميق الخلافات وزرع الفتن بين أبناء العشائر والمدن، وبين السنّة والشيعة، وتخويف كل طرف من الآخر.

اليوم، السفيرة الأميركية في العراق إلينا رومانوسكي، أثار نشاطها الواسع جدل المراقبين الذين سجلوا أن عدد لقاءاتها منذ تشكيل الحكومة في الـ27 من تشرين الأول 2022، بلغ نحو 60 لوزراء ومسؤولين وقيادات حزبية وعشائرية، ولقاءات شبه أسبوعية مع قادة إقليم كردستان، إضافة إلى المشاركة في المؤتمرات والندوات المختلفة، وإلقاء كلمات فيها، فضلاً عن التجول في الأسواق، وشراء الكتب من «دار المدى»، وهو ما لم يفعله باقي السفراء الآخرين.

نشاط رومانوسكي، أعاد ذاكرة العراقيين إلى ما كانت تقوم به «مس بيل» بلقاء المسؤولين وشيوخ القبائل، وخاصة بعد نشرها صور مشاركتها مائدة إفطار رمضانية مع عدد من شيوخ العشائر في العراق في ديوان «آل أزيرج» في الـ3 من نيسان 2023.

العشيرة التي قام أحد شيوخها بتنظيم هذه الوليمة، أعلنت أن هذا الشيخ لا يمثلها وأن ما قام به تصرف شخصي، كذلك اعتبر الشيخ بدر آل مشكور الظالمي، أن «استضافة السفيرة الأميركية تصرف شخصي لا يمثل العشائر العراقية»، وأنه «لا يمكن المهادنة مع الأميركيين ولن نتنازل عن ثأر قادة النصر».

الطريف في سياق تبريرات من حضر من الشيوخ، أن الوليمة كانت بترتيب من مستشارية شؤون العشائر في الحكومة، لعدد من سفراء دول الاتحاد الأوروبي، لكنهم فوجئوا بحضور رومانوسكي التي لم تكن مدعوة.

ورغم كل الاستنكار والضجة التي أثارتها وليمة الإفطار المخجلة، أعلنت رومانوسكي في تغريدة لها في الـ29 من نيسان 2023: «التقيت خلال زيارتي إلى الأنبار، بشيوخ العشائر واستمعت إلى دورهم المهم في إرساء الاستقرار في الأنبار»، مضيفة «من الضروري فهم وجهات نظرهم واستيعاب مخاوفهم»، ما زاد من حنق وغضب العراقيين.

رئيس الوزراء العراقي الأسبق ورئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، قال في حديث لبرنامج «نصف دائرة» الذي بثته قناة «العهد» الفضائية في الـ5 من نيسان 2023: إن «السفيرة الأميركية وبلاسخارت (المبعوثة الأممية) تتحركان خارج الدائرة المسموح بها».

وزير الخارجية فؤاد حسين رد في حوار متلفز لقناة «الأولى» الفضائية في الـ25 من نيسان 2023 على الانتقادات الموجهة لتحركات السفيرة الأميركية رومانسكي وتجاوزها للحدود الدبلوماسية، بالقول: إنه «أخطر السفيرة بمضمون ما قاله المالكي عنها»!

إلينا رومانسكي، قدمت أوراق اعتمادها كسفيرة أميركية فوق العادة في العراق في الـ2 من حزيران 2022، التي كانت قد بدأت حياتها المهنية كمحللة في وكالة الاستخبارات المركزية «CIA» لمدة عشر سنوات، وهي على مدى أكثر من أربعين عاماً، شغلت مناصب عدة في مختلف الوكالات الحكومية الأميركية، منها العمل في وزارة الدفاع، ونائبة المنسق الرئيسي لوزارة الخارجية لمكافحة الإرهاب، والمدير المؤسس لمركز الدراسات الإستراتيجية في الشرق الأدنى وجنوب آسيا في جامعة الدفاع الوطني.

رومانوسكي التي تتحدث العربية والعبرية، تولت مهام رسمية في تل أبيب، مقدمة نفسها على أنها حاصلة على شهادة الماجستير من قسم إدارة الأعمال في جامعة شيكاغو، متجاهلة الإشارة إلى إقامتها ودراستها في جامعة تل أبيب في إسرائيل، وفي أي اختصاص كان؟

رومانوسكي خانم التي تجهد لاستعادة دور الحاكم الأميركي السابق بول بريمير، بالتحرك خارج الأعراف الدبلوماسية المرعية، حاشرة أنفها في تصريحات علنية بقضايا الأمن والموازنة المالية والنفط والحريات العامة، لن تنجح في تغيير المواقف الشعبية والرسمية الداعية إلى طرد القوات الأميركية من العراق والمنطقة، التي تنهب ثروات المنطقة العربية سراً وعلانية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن