أسئلة باتت هواجس تؤرق وجودنا … محمد أركون عني بمفهوم الحداثة وتأسيسه في وعي كل مثقف
| مايا سلامي
صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب- كتاب بعنوان «محمد أركون وحلم الحداثة»، تأليف د. ماجدة حمود، يقع في 200 صفحة من القطع الصغير، ويتناول هذا الكتاب محمد أركون الذي عني بمفهوم الحداثة وتأسيسه في وعي كل مثقف يهمه السير في طريقها، فيدعوه إلى امتلاك أدوات معرفية تمكنه من البحث عن الحقيقة في كل المسالك والدروب من دون أن يخشى الضياع، وخاصة إذا تمتع بثبات داخلي ما يتيح له اقتحام أي مغامرة فكرية من دون خوف من أي صعوبة أو مشكلة، وبذلك كان دائب الدعوة إلى ضرورة النضال من أجل الحقيقة ومن دون الادعاء بأننا نملكها، فاستخدام أركون لمناهج حديثة أتاح له الإسهام مع غيره من المفكرين في دفع الفكر العربي نحو التنوير والعمق وابتكار معارف ترقى بوجودهم كي يصنعوا حياة جديدة لعله في ذلك يسهم في تحقيق حلم الحداثة.
كما يحاول الكتاب الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي باتت هواجس تؤرق وجودنا في زمن باتت القوة المعرفية سلاحاً لابد منه نواجه به ذاتنا وأعداءنا معاً. فما زالت تحاصرنا تساؤلات اليوم مثلما حاصرت أجدادنا قبل أكثر من مئة عام: لماذا أنجز العالم بشرقه وغربه حداثته، ونحن غارقون في غيبوبة تخلفنا؟ ما إن نخطو خطوة باتجاهها حتى نتراجع خطوات، لماذا لا يعيش الإنسان العربي زمنه، إلا مقلداً وخانعاً؟ لماذا يتيه في أسئلة موجعة، تحصر وجوده في دينه ومذهبه وعرقه؟ متى يواجه هذا الضعف الذي يحاصر وجوده؟ وكيف يواجه ذاته المكبلة؟ وكيف يواجه الآخر المستعمر، الذي ما زال مهيمناً على حياته السياسية والاقتصادية رغم رفع علم الاستقلال؟
مفهوم الحداثة
وفي البداية تستعرض الكاتبة مجموعة من التأملات في مفهوم الحداثة التي لوحظ تعدد الرؤى في التعامل معها ومناهج الوصول إليها بتعدد المفكرين لكنهم يلتقون في حلم تغيير الواقع البائس وبناء عالم جديد. وتشير د. ماجدة إلى أن الدلالة اللغوية للحداثة مستمدة من جذر «حدث» الذي يوحي بالحركة والتجدد، وهذا ما يخبرنا به معجم «لسان العرب» فيتضح لنا أن الحديث نقيض القديم، والحدوث نقيض القِدمة. وتشير إلى أنه ثمة دلالة سطحية للحداثة تلك التي توحي بحدوث ما هو عادي من أفكار ونظريات هاجمها بعض النقاد العرب إذ رفضوا أن تكون هذه الدلالة مرادفة للابتذال والزخرفة والسطحية ورأوا في ذلك استمراراً لجمود ورثناه من عصر الانحطاط.
وترى أنه لا يمكن عزل الدلالة اللغوية لمصطلح الحداثة عن تأثيرات السياق التاريخي الذي بدأت بالظهور فيه، فقد بدأ العرب يتلمسون حاجتهم إلى الحداثة منذ لاحظوا البون الشاسع بينهم وبين الآخر الغربي وبدؤوا يحتكون ببعض مظاهرها وخاصة حين بدأت جيوش هذا الآخر تغزو الشرق قبل أكثر من مئتي عام.
أسئلة الحداثة
ومن ثم تستعرض الكاتبة أسئلة الحداثة لدى محمد أركون الذي ولد في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي الذي حاول تدمير شخصية الجزائري، ما دفع أركون إلى تحدي واقعه البائس ومواجهة المعتدي بسلاح سبقه إليه يعتمد المعرفة والعمل، وبذلك يعد أحد أبرز الباحثين عن سبل التغيير والقضاء على الانحطاط.
وتقول د. ماجدة: «يلاحظ المتأمل أن أركون يثير في كتبه كثيراً من تلك الأسئلة التي أرقته، فقد أزعجه ابتعاد البلاد العربية ومعظم البلاد الإسلامية عن جادة الحداثة، لهذا نجده يناقش الطرق التي تفضي إليها فيطرح تساؤلات عدة، لعلها تقصر الطريق إليها»، وتشير إلى أبرز تلك التساؤلات، وهي: ما أدوات الحداثة؟ وما مفهومها الذي تنطلق منه؟ هل يقوم على إعلاء شأن العقل وحرية التفكير والتواصل مع العلوم الحديثة؟ أم تلك التي تقوم على التأمل في الكون؟ أم تلك التي تقوم على إثارة أسئلة الوجود؟ أم تلك التي تقوم على امتلاك رؤية نقدية واعية؟ أم تلك التي تعلي أدوات الآخر وتنسى ما يقدمه التراث من إمكانات؟ أم ذلك كله؟ ما الذي يعرقل مشروعها؟ من يصنع الحداثة؟ وكيف نصل إليها؟ كيف ننشئ علاقة معافاة بين حداثتنا وحداثة الغرب وبين حداثتنا والتراث الذي تنتمي إليه؟
مواجهة الآخر
وتتحدث د. ماجدة عن الحداثة لدى محمد أركون ومواجهة الآخر الغربي، فتذكر: «يسجل لمحمد أركون جمعه بين فعاليتين أساسيتين تمارسان سلطة المعرفة عبر القراءة النقدية: الأولى مواجهة الذات وقراءة محاسنها وعيوبها والثانية مواجهة الآخر وقراءة منجزه الفكري وبذلك حاول أن يقرأ الذات والآخر قراءة واعية».
وتؤكد أن أركون لم ينزّه الآخر (الفكر الغربي) مثلما لم ينزّه الأنا (الفكر العربي)، فهو ممن يرون أنه من الخطأ فصل الشرق عن الغرب لأن الحضارة الإنسانية تقوم على الأخذ والعطاء، أي استفادت الذات من علوم الآخر وابتكاراته في العصر الحديث مثلما كانت استفادة الآخر من علوم ابتكرتها الذات في عصر مضى.
وتوضح أن أركون ابن الثقافة العربية الإسلامية رغم انتمائه للأقلية البربرية فقد استفاد من إقامته في المجتمع الغربي (فرنسا)، إذ ازداد تعمقاً في الفكر الغربي حتى استطاع ممارسة وعيه النقدي على أسس معرفية قلما نجدها لدى المثقفين العرب.