ما انفكت «الجزيرة» المتمردة على سلطة الدولة المركزية في بكين تمارس الاستفزاز تلو الآخر بدعم وإسناد أميركيين في محاولة لترسيخ «حيثيتها» السياسية بعد أن تقلص عديد المعترفين بتلك الحيثية كثيراً حتى أضحى، راهناً، لا يزيد على 13 دولة معظمها جزر صغيرة على امتداد هذه المعمورة، والفعل إياه يستظل بتقارير أميركية تقول إن الصين لن تكون جاهزة للحرب كوسيلة لاستعادة تايوان إلى حضن السيادة قبيل العام 2027، على الرغم مما أبداه مؤتمر «الحزب الشيوعي الصيني»، المنعقد شهر تشرين أول الماضي، من تشدد حيال مسألة قومية «لا يمكن تقديم تنازلات فيها» وخلص إلى حسمها قائلا بـ«أحقية الدولة الصينية استخدام كل الوسائل المتاحة لاستعادة تايوان».
كانت الزيارات المتبادلة ما بين تايبيه وواشنطن وكذا الرحلات الخارجية لمسؤولي الأولى، تمثل إحدى وسائل الاستفزاز السياسي آنف الذكر، من حيث إن الفعلين يهدفان بالدرجة الأولى إلى ترسيخ مفهوم «الحيثية» سابقة الذكر، وإن كان يحمل في بعض الأحيان مراميَ أخرى لا تقل أهمية عن «المرمى» الأول، ولربما كانت جولة «رئيسة» تايوان تساي انغ وين، التي قامت بها في أميركا اللاتينية شهر نيسان الماضي، مثالاً صارخاً على ذلك كله، فالجولة بدأت في لوس أنجلوس الأميركية ثم اختتمت بحط الرحال في كاليفورنيا للقاء رئيس مجلس النواب الأميركي كيفين مكارثي الذي حاول التخفيف من وقع الزيارة قائلاً: إنها لا تعكس «أي تغيير في سياسة الصين الواحدة التي تنتهجها واشنطن»، ومثله فعل وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي ذهب إلى مدى تخفيفي أكبر حين قال: «إن رئيسة تايوان لم تقم بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، بل إن وجودها في هذا البلد مجرد زيارة ترانزيت».
استدعت الزيارة الخارجية التي قامت بها «الرئيسة» التايوانية رداً صينياً عسكرياً تمظهر بتدريبات واسعة بدأت يوم الـ 5 من نيسان الجاري واستمرت لأيام، وهي تهدف بالدرجة الأولى لإرسال رسالة مفادها أن السلوكيات التي تمارسها «الرئيسة» تهدد بتحويل «الجزيرة» إلى بؤرة ساخنة تحيط بها مناخات دولية يمكن أن تدفع بها للانفجار، حيث التوتر الناجم عن الحرب الأوكرانية، والذي كان له نصيب كبير في إشاعة مناخات التوتر ما بين بكين وواشنطن المتوترة أصلاً ما بين الاثنين منذ مطلع هذه الألفية على خلفية النهوض الاقتصادي – التكنولوجي الصيني الذي تراه واشنطن عامل تهديد لهيمنتها العالمية، الأمر الذي قضى بدخول تلك العلاقة مرحلة هي أشبه بـ«التساكن» ضعيف الموثوقية ما بين طرفيه، وعلى الرغم من أن كلا الطرفين لا يرى مصلحة حقيقية بالصدام راهناً قياساً لاعتبارات عدة أبرزها أن شروط هذا الفعل لم تتكامل تماماً بالشكل المطلوب لها أن تكون فيه، إلا أن كلاهما يريان أن الإبقاء على وضعية التوتر قد يكون أمراً مفيداً، فواشنطن من جهة ترى أن «الاستفزازات» التايوانية التي تدعمها قد تكون لها تداعيات على الداخل الصيني الذي بدا في مؤتمر الحزب الشيوعي سابق الذكر، قوياً ومتماسكاً تحت ظل قيادته، وبدت معها قيادة شي جين بينغ تاريخية من قماشة المؤسسين الذين يستطيعون وضع «البرامج والوعود» قيد التنفيذ، ولذا، والرؤيا هكذا، لا بأس في «خدش» تلك الصورة الأمر الذي سترتد مفاعيله على مظهري «التماسك» و«القوة» آنفي الذكر، أما بكين فرهانها الحالي ينصب على حدوث تغييرات داخل تايوان نفسها يكون من شأنها تجنب صدام إذا ما وقع سيكون من الصعب تحديد النتائج التي سيفضي إليها، فميزان القوى القائم حالياً ما بين بكين وتايبيه لا يمكن الرهان عليه لأكثر من بضعة أيام وهو خاضع لتغيرات كبرى حال نشوء الصراع تماماً كما حدث في أوكرانيا ما بعد 24 شباط من العام الماضي، وفي ذاك لا تزال، بكين، ترى وجوب دعم «الحزب الديمقراطي» الذي تتزعمه تساي إنغ وين، في مواجهة حزب «الكومينتانغ» الانفصالي الذي كان يحكم بكين قبيل انتصار الثورة عام 1949، حيث سيؤدي هذا الفعل الأخير إلى فرار قيادات وقواعد الحزب إلى الجزيرة وإقامة وضع سياسي فيها ظل العالم حتى العام 1971 يعترف بشرعية تمثيله للشعب الصيني.
زيارة تساي إنغ وين، لدول في أميركا اللاتينية لها اعتبارات خاصة، فمعظم المعترفين بالحيثية التايوانية هم من دول القارة، ولذا فإن الهدف الأهم لها هو ترميم علاقات تايوان داخل هذه الأخيرة، حيث لا تزال الحسابات الاقتصادية المرتبطة بمشاريع استثمارية وتنموية هي الرابط الأهم الذي يجعل من تلك الدول تبقي على اعترافها بالكينونة الخاصة لتايوان، وهو ما تدركه بكين جيدا، وتسعى من خلال إدراكها ذلك نحو انتهاج سياسات مضادة تهدف من خلالها إلى تقطيع أوصال تلك العلاقات عبر نسج بدائل لها الأمر الذي توضحه أرقام الاستثمارات الصينية في القارة اللاتينية التي سجلت ما بين عامي 2005 – 2020 ما يزيد على 130 مليار دولار، وهي أعطت نتائج مرضية، حيث أعلنت العديد من الدول مثل نيكاراغوا والسلفادور والدومينكان وبنما وكوستاريكا ثم هندوراس عن التخلي عن علاقاتها مع تايوان لمصلحة علاقاتها مع الصين، لكن المرامي لم تبلغ ذراها بفعل التدخل الأميركي الذي من المتوقع له أن يتزايد على وقع المواجهة الحتمية مع الصين وفقا لتقديرات غرف دوائر القرار الأميركي.
في لقاء أجراه موقع «بلومبيرغ نيوز» مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر منتصف شهر تشرين الثاني 2020 قال الأخير: إن «الولايات المتحدة والصين اليوم تمارسان ديبلوماسيتهما بطريقة المواجهة»، وأضاف: «إذا لم تتمكن إدارة جو بايدن من احتواء الصين بشكل سريع، فإن ذلك سيجعل من السيطرة على أزمة كهذه أكثر صعوبة من تلك التي كانت في المراحل السابقة»، قبيل أن يطلق نبوءة تبدو واقعية «فيما عدا ذلك فإن العالم ينزلق إلى كارثة مماثلة للحرب العالمية الأولى».
كيسنجر هنا ذكر الحرب العالمية الأولى، وليس الثانية، لأن الأولى كانت تمثل خروجاً أول لواشنطن عن «مبدأ مونرو – 1823» الذي اعتمده الرؤساء الأميركيون على مدى قرن كامل، والمبدأ يقضي بضرورة الابتعاد عن الصراعات التي تغص بها القارة الأوروبية، وهو بهذا المعنى كان يرزخ للسياسة النقيضة تماماً للهيمنة وبسط النفوذ، فكان القرار بالمشاركة في حربي العالم الأولى والثانية، أما الآن فالتحضيرات تجري في بحر الصين الذي ستكون معركته المقبلة محددة لمن ستكون له السيادة في ما تبقى من عقود في هذا القرن.