على الرغم من اعتقاد بعض الباحثين واستطلاعات الرأي أن رئيس النظام التركي سيواجه نهاية حتمية لحياته السياسية، إلا أن المعطيات الموضوعية التي تسبق الانتخابات العامة التركية المزمع عقدها منتصف شهر أيار الحالي، توحي بأن رجب طيب أردوغان إن لم يفز بهذه الانتخابات فهو لن يخرج خاسراً من المشهد الانتخابي في مقارعة خصومه من المعارضة سواء مرشح تحالف الأمة أم ما يعرف بمرشح الطاولة السداسية كمال كليتشدار أوغلو، أو من خلال المرشحين الآخرين لهذه المعارضة التي لم تستطع التوافق حول مرشح واحد للمشاركة في منافسة الانتخابات الرئاسية بشكل يقطع الطريق أمام أردوغان من العودة لمنصبه الرئاسي مجدداً بعد ترشح رئيس حزب البلد محرم إنجه ومرشح تحالف الأجداد سنان أوغان لهذه الانتخابات.
أردوغان الذي يواجه موقفاً ليس بالاعتيادي وهو في حقل من التحديات الداخلية والخارجية الناجمة عن تبنيه إستراتيجيات وسياسات انعكست بشكل سلبي على حاضنة حزبه التي فقدت أكثر من مليون منتسب في صفوفها خلال العامين السابقين، وأدت لانشقاق أبرز الوجوه البارزة منه والتي تصنف على أنها أهم أركان وأعمدة هذا الحزب على مدى أكثر من عقدين ونيف من الزمن، أمثال أحمد داوود أوغلو صاحب نظرية «العمق الإستراتيجي لتركيا» وعلي باباجيان منظر الانفتاح الاقتصادي وحلقة الربط والجذب لرؤوس الأموال الخارجية، إلا أن ذلك إضافة إلى ما شهدته تركيا من تراجع لواقع النمو الاقتصادي والتضخم النقدي وتفاقم الواقع المعيشي، لن تنهي مسيرة أردوغان وحزب التنمية وإن كان لها تأثير في تراجع شعبية الحزب ونسبة المؤيدين لتركيا لما يقرب من 1 إلى 3 بالمئة من نسب الناخبين.
وبالاستناد لهذه الرؤية، يمكن التأكيد على مجموعة من المؤشرات التي تشكل عوامل نجاح أردوغان في تثبيت نظامه الرئاسي الذي كرسه مؤخراً بعد الاستفتاء عليه قبل أعوام والحفاظ على مكانة حزبه المهيمن منذ ما يزيد على عشرين عاماً، وتتمثل هذه العوامل بخليط من النقاط الداخلية والخارجية المترابطة على حدٍّ سواء:
أولاً- يبلغ عدد من يحق لهم الانتخاب في الاستحقاق الرئاسي والبرلماني أكثر من 64 مليون ناخب، وفق الهيئة العليا للانتخابات التركية، بينهم ما يزيد على خُمس الناخبين هم دون سن الـ25، ولم يسبق لنحو نصف هذا العدد التصويت من قبل، ولم يعرف هؤلاء الشباب في حياتهم رئيساً لتركيا سوى أردوغان، وهو ما قد يدفعهم نحو انتخابه، كما أن معظم الأتراك في الخارج ستميل أصواتهم لانتخاب أردوغان وخاصة بعد جملة المواقف والسياسات، وإن كانت دعائية، الداعمة لهم في الدول التي يعيشون فيها، كما أن الانتخابات البرلمانية، التي يهدف حزب العدالة والتنمية للفوز بـ301 مقعد لتحقيق الأغلبية في الجمعية الوطنية الكبرى قد يحقق مبتغاه في ذلك بعد دخول حزب الحركة القومية وحزب الوحدة الكبرى وحزب الرفاه الجديد، المنتمين إلى «تحالف الأمة» في الانتخابات بقوائم منفصلة، وهو ما قد يؤدي إلى خسارة بعض المقاعد الانتخابية لمصلحة التنمية والعدالة.
ثانياً- وفق كل التقديرات والتصريحات المحسوبة على المعارضة فإن أردوغان مازال يحافظ على ما يعرف بداخل تركيا بالكتلة المحافظة «الدينية والقومية» والتي تقدر نسبتها بما يقرب من 45 بالمئة من نسبة المواطنين، وهي الكتلة ذاتها التي أوصلت «العدالة والتنمية» للحكم نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وقد أقر بذلك رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، مؤسس حزب «المستقبل»، عندما قال: إن «أردوغان لا يزال يتمتع بدعم كتلة المحافظين، ويجب انتزاعها منه، من أجل تحقيق تقدم أمامه في الانتخابات»، وفي سعيه للحفاظ عليها قدم أردوغان تعهدات بتقديم قروض ومساعدات للزواج وأعلن الانسحاب من اتفاقية إسطنبول لمنع العنف ضد المرأة عام 2021، وسبقها إعادة فتح مسجد أيا صوفيا للعبادة عام 2020، وقدم مشاريع قومية تهدف إلى وصول تركيا للعالمية مثل مشروع «القرن التركي»، وإشارته في أكثر من مرة أن تركيا ستتخلص من أكبال اتفاقية لوزان هذا العام الذي يتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية.
ثالثاً- وجود أكثر من مرشح للانتخابات الرئاسية من صفوف المعارضة وهو ما قد يجعل مرشحي المعارضة يتقاسمون نسبة المقترعين ويجزئون كتلتهم نتيجة تناقض المرجعيات والإيديولوجيات التي يتبناها كل مرشح، فضلاً عن أن تأخر الطاولة السداسية في اختيار مرشحها وكارثة الزلزال التي أصابت تركيا أخّرت من الحملة الانتخابية للمعارضة التي شهدت انقساماً في مرحلة معينة أضعفت من ثقة المؤيدين لها.
رابعاً- هناك حالة تململ لدى بعض الناخبين الأكراد الذين يعيشون في ظروف سيئة ومتردية نتيجة تأييدهم للقوى الحزبية الكردية على مدى أعوام في مواجهة أردوغان، وهؤلاء يعرفون باسم المحافظين الأكراد الرافضين للعنف والباحثين عن الاندماج ضمن تركيا ويقدر عددهم بقرابة 3 بالمئة من أصوات الناخبين، وتشير التقديرات أنهم قد يصوتون لأحد الأحزاب المؤتلفة مع حزب «العدالة والتنمية» وبصورة خاصة حزب «اليسار الأخضر».
خامساً- على الصعيد الخارجي، فإن أردوغان الذي شكل عبئاً على الكثير من الدول الصديقة والخصمة له، إلا أنه يعتبر أفضل الخيارات السيئة لهم في المنطقة، فواشنطن التي رفضت تسليمه عبد اللـه غولن وقررت وقف مشاركة تركيا في انتاج طائرات «إف35» نتيجة شراء الأخير منظومة «إس400» من روسيا، إلا أن تمسك أردوغان بموقع دولته كجزء من الناتو والغرب يشكل ضمانة للولايات المتحدة والدول الأوروبية المنزعجة من سلوك أردوغان بسبب استغلاله للعديد من الملفات في سبيل ابتزازها وتحقيق مصالح جيو إستراتيجية بعد انغلاق باب الاتحاد الأوروبي في وجه تركيا.
على المقلب الآخر فإن التحالف الشرقي المكون من الثلاثي الروسي- الإيراني- الصيني، يجدون في أردوغان شخصية يمكن احتواؤها نتيجة تفضيله للوصول إلى المصالح، فروسيا التي تلقفت عدم فرض تركيا عقوبات عليها، باتت تزيد من تعاونها مع أردوغان في كل المجالات وتمنحه هامشاً من المناورة تجعله غارقاً في بحيرة من المغريات الجاذبة، وإيران تعد وجود شخصية كأردوغان باعتقاده الديني والقومي أفضل من وجود شخصية عسكرية في السلطة بتركيا تمثل «الناتو» وتقوم بترجمة إستراتيجيته ضدها، والصين العملاق الاقتصادي المتنامي تدعم بقاء أردوغان في السلطة لضمان استكمال مشروع الحزام والطريق لكون أردوغان بحاجة للتنمية الاقتصادية التي يمكن أن تقدمها الصين، والأخيرة بحاجة لدور هذا الشخص في الحفاظ على سيطرته على المقاتلين الإيغور بشكل مسالم.
أردوغان أقرب لكرسي الرئاسة وحزبه الذي قد تتقلص شعبيته سيبقى الرقم الصعب، فأخطاء المعارضة صبت لمصلحته وعقدة المصالح التي تربطه مع الخصوم والأصدقاء الدوليين جعلته الخيار الأقل سوءاً لهم.