عندما أعربت عن اعتقادي الراسخ بأن الزمن هو البطل المطلق للدراما البشرية. كنت أقصد بكلامي الدراما الفنية التي نشاهدها على المسرح أو عبر شاشتي السينما والتلفزيون، وهاأنذا أكتشف وأنا أعيد النظر في الفكرة نفسها أنها تنطبق على دراما الحياة أيضاً.
فالزمن -ذلك البطل الخفي- ينتصر على كل الكائنات في النهاية، ولا فرق يذكر هنا بين شخصيات الدراما الفنية، وشخصيات دراما الحياة، ذلك لأن كل ما في الوجود يستمد معناه من امتداده في الزمن.
لهذا أعربت منذ سنوات طويلة عن اعتقادي بأن الطموح الأسمى والأهم للفن الحقيقي هو أن يجعل الزمن، هذا البطل الخفي الجبار، مرئياً ومحسوساً! وقد حاولت وأحاول تحقيق ذلك في كل عمل قمت أو أقوم به، فأنا أطمح دائماً أن أجعل المشاهد أو القارئ يرى الزمن ويحس بسماكته، عساه لا يؤجل حياته فتدخل سماكة الزمن حاجزاً بينه وبين أحبابه وأحلامه! إذا كنت تريد أن تكون لطيفاً مع أحد ما فقم بذلك الآن. إذا كنت تريد أن تقول لأحد ما إنك تحبه فقل له ذلك الآن، إذا كنت تحلم بتغيير شيء ما في نفسك أو فيما حولك، فقم بتغييره الآن، لأن الغد ملك لنفسه، وبانتظار الغد قد تتغير أنت، أو يخطف الموت من تحب، أو تضيع فرصة التغيير منك إلى الأبد.
كان طموحي الدائم ولا يزال أن أوصل القارئ أو المشاهد إلى حالة من الشجن، يدرك من خلالها وفي ضوئها أن الحياة ليست ما نتمناه أو ننتظره، بل هي ما نفعله الآن… فالحياة هي ما يجري بينما ننتظر نحن شيئاً آخر!
هذا ما فكرت به وأنا أقرأ حكاية واقعية أرسلها لي صديق يقيم في كندا، وبما أنني أعتبر كل من يقرأ هذه الكلمات صديقاً لي اسمحوا لي أن أروي لكم بطريقتي تلك الحكاية التي هزتني وأسقطت الندى عن أوراق روحي.
لم يرها بوضوح في غبش المساء لكنه أدرك، من خلال وقوفها إلى جانب الطريق السريع وتلويحها بذراعها كطير جريح، أنها بحاجة للمساعدة.
أوقف سيارته القديمة المتداعية على بعد عدة أمتار من سيارتها الفخمة الحديثة، واقترب منها مبتسماً، لكنها رغم ابتسامته الودود العريضة شعرت بالخوف منه لأن مظهره يوحي بأنه فقير وجائع، كانت العجوز الغنية ترتجف من البرد والخوف لأن ساعة كاملة مضت عليها وهي تشير للسيارات من دون أن يتوقف أحد لمساعدتها. أدرك الرجل أن المرأة خائفة منه فطمأنها قائلاً: «اسمي برايان، وأنا هنا لمساعدتك يا سيدتي! لم لا تصعدين إلى السيارة ريثما أقوم أنا باستبدال الإطار، فالجو في الداخل أدفأ».
انهمك برايان في استبدال الإطار المثقوب، بينما كانت المرأة العجوز تراقبه بقلق، وعندما كاد ينتهي من عمله تراجعت مخاوفها فأنزلت زجاج النافذة وراحت تتحدث معه.
انتهى برايان من عمله وعندما أغلق صندوق السيارة سألته المرأة كم يجب أن تدفع له لقاء الخدمة التي أداها لها. وقد كانت مستعدة أن تدفع له ما يريد لأنها غنية، ولأنه أنقذها من ورطة كبيرة. قال برايان لها مبتسماً: ما قدمته لك يا سيدتي ليس خدمة بل مساعدة، وأنا لا أتتقاضى أجراً على المساعدة، لأن أشخاصاً كثيرين ساعدوني من دون أن يتقاضوا مني شيئاً».
ألحت المرأة على أن تدفع لبرايان. فقال لها بلطف بالغ: «إذا كنت مصرة على أن تدفعي لي فأنا أطلب منك أن تقدمي العون لأول شخص ترينه بحاجة للمساعدة، وأن تفكري بي وأنت تفعلين ذلك».
كان ذلك اليوم بارداً لكن برايان شعر بالرضا وهو يرى المرأة العجوز تنطلق بسيارتها ملوحة له. على بعد عدة كيلومترات رأت المرأة استراحة صغيرة إلى جانب الطريق، فتوقفت. لم يكن في الاستراحة سوى امرأة حبلى في شهرها الأخير تقوم بالخدمة. رشفت المرأة قهوتها وراحت تفكر في سرها لو لم تكن هذه المرأة الشابة تعاني من ضائقة مالية لما عملت وهي حبلى في شهرها الأخير. أعطت العجوز المرأة الحبلى ورقة نقود من الفئة الكبيرة فمضت إلى الداخل كي تحضر لها بقية المبلغ، لكن الحبلى عندما خرجت لم تجد المرأة العجوز، بل وجدت مبلغاً طيباً من المال وإلى جانبه ورقة كتب عليها: «أنت لا تدينين لي بأي شيء. لقد عانيت الضيق أنا أيضاً وساعدني شخص ما وإذا كنت تريدين أن تردي هذا الدين لي فلا تدعي سلسلة الحب تنتهي عندك».
وفي تلك اللحظة السعيدة رأت المرأة الشابة زوجها برايان يدخل عبر الباب ويداه ملطختان بالشحم.