بين الانتظار والخذلان.. من لبنان إلى فلسطين هل من استنساخٍ غير مكتوب لـ«أوسلو» !
| فراس عزيز ديب
دائماً ما يكون هناك رابط بين الانتظار والخذلان، فإتقان فن اللعب على الوقت يستند إلى كسرِ حالة استعجال تحقيق الهدف، أما الخذلان فهو قد يكون في بعضِ تجلياته ضعفٌ في إدارة الانتظار، في السياسة لا يبدو الأمر مختلفاً فكثيراً ما تم الترويج له في الأعوام القليلة الماضية بأن الملفات الساخنة في المنطقة ترتبط ببعضها بعضاً ولا يمكن الحديث عن حلحلةٍ في ملف دون الآخر لدرجةٍ بتنا معها أسرى الانتظار نعيشُ كابوس الخذلان، هناك من يريدنا أن ننتظر مثلاً نتائج الانتخابات في تركيا لتحديدِ مصير ملف الشمال السوري، لكن في الحقيقة لا يبدو هناك من رابطٍ بينهما، فملف الشمال السوري سيُحسم بمعزلٍ عن طبيعةِ السلطة الحاكمة في تركيا، حتى نجاح المرشح رجب طيب أردوغان من دون حدوث اللقاء بينه وبين الرئيس بشار الأسد لا يعني أبداً أن أردوغان يستطيع أن يكمل ولايته القادمة من دون إيجاد حلٍّ للمتاهة التي أوقع نفسه بها في الشمال السوري، أو من دون تفاهماتٍ للخروج وفق تسلسل زمني بضمانات أصدقاء سورية وأشقائها، لأن الجيش العربي السوري باتَ متسلحاً اليوم بالرفض العربي للوجود التركي، هل يعني هذا الرفض دعم القوات السورية في عمليةٍ عسكرية ضد التنظيمات الإرهابية في المنطقة؟ هل تعني الضمانات الإيرانية والروسية الشيء ذاته مع العلم أن روسيا وحدها من قام بدعم هذهِ العملية في العام 2020 عندما حرر الجيش العربي السوري مساحات واسعة من ريف إدلب؟ على هذا الأساس لا تبدو الانتخابات التركية تستحق كل هذا الاهتمام، إلا إن كان هناك من ينتظر الشماتة بالرجل الذي سفكَ دماء السوريين، عندها نقول ببساطة وحسب الكثير من التقارير الغربية الموثوقة إن أردوغان أساساً يعاني من مشكلات صحية تتجاوز بكثير ما يعانيهِ الرئيس الأميركي جو بايدن، فهو إن نجح فسيكون أشبه بالواجهة الرئاسية، هذا إن أكملَ ولايتهُ أساساً!
بالسياق ذاته، هناك من روج لفكرةِ انتظار بعض الدول العربية الضوء الأخضر الأميركي للانفتاح على سورية أو استعادةَ سورية لمكانها في الجامعة العربية، وهذا لم يحدث، تحديداً لأن العلاقات السورية مع المملكة العربية السعودية تسير بهدوءٍ متزن يلقى كل الاحترام والتقدير حتى نصل إلى اللحظة التي يلتقي فيها قادة البلدين ليطوي الجميع صفحة الشرذمة العربية نحو الحد الأكبر للعمل العربي المشترك، ليكون الحضور السوري في القمة العربية التي تستضفيها جدة تتويجاً لهذه اللهجة التصالحية بمعزلٍ عن تحفظات البعض لأن تحفظاتهم مرهونة بملفات ثانوية لا علاقة للمصالح العربية بها، تُرى هل ستبقى تحفظات إحدى هذه الدول في حال مغادرة «العدالة والتنمية» للسلطة وهي التي سخَّرَت ماكينتها الإعلامية لدعم هذا الطرف؟!
ليسَ بعيداً عن سورية أيضاً، هناك من تحدث عن دخولِ لبنان نقطةَ اللاعودة في ظل ما يعيشهُ هذا البلد من فوضى سياسية ومالية واجتماعية لدرجةٍ ظن فيها البعض بأن هذا البلد عليهِ أن ينتظر الكثير من الحلحلة بباقي الملفات حتى يصله الدور، لكن التجربة العملية أثبتت أن هذا الكلام لم يعد يصلح في هذا الوقت، فالسعودية وحسب الإعلام الفرنسي، أبلغت الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بأنها لا تضع أي فيتو على أي مرشحٍ للرئاسة يتوافق عليه اللبنانيون بما فيهم الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية، هذا الكلام قد يظنه البعض نتيجة للتسويات التي حصلت مؤخراً بما فيها عودة العلاقات السعودية ـ الإيرانية، لكن وللإنصاف فإن المتابعَ للسياسة السعودية في لبنان بصورةٍ محايدة منذ تولي ولي العهد محمد بن سلمان مهامه بشكلٍ رسمي، لن يصعبَ عليهِ الأمر ليكتشف تبدلاً جوهرياً في هذه السياسة، هذا الكلام قلناه في السابق وقلنا إن المملكة أرادت التخلص من العبء اللبناني، لم يعد يعنيها أساساً توصيفات من قبيل «رعاية السنة في لبنان» وهي التي بدأت تتخلص من كل ما هو مذهبي في الداخل السعودي نفسه، سحبت من كانوا يسمونهُ ابنها المدلل سعد الحريري من الواجهة، فتحت قنوات تواصل مع جهات كانت في السابق تصنف «معادية»، اليوم كشفت عن عدم وضعها فيتو ضد أي شخصية يتوافق عليها اللبنانيون، كل هذه الأعباء التي أرادت المملكة التخلص منها تستهدف الوصول إلى أمرين:
الأمر الأول معرفتها بأن لبنان لن يكون في يوم من الأيام منصة استعداءٍ للملكة بمعزل عن الذي يحكم ومن الذي يعارض، تحديداً لأن تحصين الداخل السعودي بات أشبه بالقبة الحديدية التي تحمي المملكة من عواصفَ غير محسوبة، الأمر الثاني وهو الأهم ربما هو إثبات غير مباشر من المملكة لمن لايزال في قلبهِ وجل ويعتقد بأن كل مآسي لبنان سببها انعكاسات الصراعات في الإقليم، ها هي الصراعات بدأت تتحلحل، فما الذي سيتغير؟ ربما بواقعيةٍ تامة لا شيء سيتغير بنفوذ المملكة أو دونها، بالنفوذ السوري أو دونه، لا شيء سيتغير، لأن مشكلة لبنان أعمق بكثير من مجرد نفوذ، مشكلة لبنان بوجود طبقة سياسية تبحث عن نفوذٍ ما تستند إليه حتى لو كان هذا النفوذ يريد التخلص من عبئها، مشكلته بوجه نظام طائفي حوَّل البلد إلى كانتونات طائفية، فمشكلات لبنان لن تنتهي إلا بانتهاء ذلك، فلماذا علينا الانتظار؟
أما بالانتقال إلى الخذلان، فربما كان الملف الوحيد الذي فعلياً يمكننا القول: إنه متشابك مع باقي الملفات وعلينا الانتظار هو ملف «الفكر المقاوم»، بصورةٍ أدق السؤال المطروح اليوم بكثرة: ماذا يجري في فلسطين المحتلة؟
دون سابق إنذار بدأت إسرائيل سلسلةَ اغتيالاتٍ ضد قادة حركة الجهاد الإسلامي في غزة، سياسة الاغتيالات هذه لو نظرنا إليها بواقعيةٍ لوجدنا بأنها حصدت وللأسف خيرةَ القادة العسكريين لهذه الحركة، لكن الموضوعية بالوقت ذاته تقودنا لما هو أهم والذي يمكن تلخيصه بسؤالينِ أساسيين:
أولاً، كيف تمكّن الكيان الصهيوني من الوصول إلى هؤلاءِ القادة وبهذه الدقة؟ هنا لا بد من توجيهِ أصابع الاتهام لمن لا يريد لهذه الحركة أن تكون في واجهةِ التيار المقاوم، عملية التصفية الجسدية هذهِ لا تختلف عن عملية التصفية الفكرية لتنظيمات أخرى عندما رفعت علم الثورة السورية مثلاً، أو عندما بقيت تنتظر وصول الثنائي (حمد- أردوغان) لتحرير القدس، عملية التصفية هذه وإن تورطت فيها دول لكن المستفيد الأول منها هو الحلقة الأضيق من هذا التوجه.
ثانياً: لماذا هذا التصعيد الخطير؟ هذا السؤال يفتح الباب على مصراعيهِ للحديث عن التوازنات في القطاع بما فيها قرار الرد من عدمهِ والذي تستأثر بهِ حماس ومن خلفها كل من تركيا وقطر، بمعزلٍ عن ما نقرأ من بيانات والسماح بالردود الموضعية التي تحافظ على صورة الحركة ولا تسمح للتفاهمات السياسية مع الكيان الصهيوني بضمانات تركية- قطرية من الانهيار، اليوم هناك من يتحدث عن وساطات تستهدف الوصول إلى اتفاق تهدئة على الطريقة الحمساوية، يحوِّل حركة الجهاد الإسلامي إلى واجهةٍ سياسية مقابل ضمانات بعدم الاغتيال، ويضع الفكر المقاوم على الرف من مبدأ تقطيع الوقت، هو أشبه بأوسلو غير مكتوب سيشمل كل رافضي اتفاقيات أوسلو فماذا ينتظرنا؟
بدأ قطار الحلول يسير في الطريق الذي يُعيد للمنطقة سلامها ربما لأن هناك كثراً من اللاعبين السياسيين أجادوا بحق إدارة معركةِ الانتظار فكسبوها لدرجةٍ باتت معها كل الانتظارات الأخرى ليست ذات أهمية، أما المعركة ضد الخذلان فيبدو بأنها في الطريق لتكون المعركة الأصعب تحديداً في نظر من لا يُجيد معركة الانتظار ويستعجل تحقيق الأهداف، هل سنشهد تحولات جوهرية فيما يتعلق بالملف الفلسطيني؟ ربما هي كذلك إن لم يكن هناك تصعيد يطيح بكل التفاهمات السابقة، ماذا لو حاول البعض السعي لتفاهماتٍ جديدة مستفيداً من حال اللا توازن الذي يعيشه الكيان؟