قبيل نحو عام، وتحديداً في شهر حزيران من العام المنصرم، أطلقت أنقرة أولى إشاراتها «الإيجابية» نحو دمشق ما عنى، في حينها، أن النظام التركي قد دخل مرحلة «مراجعة الحسابات» لمرحلة مديدة استمرت لأكثر من عقد من الزمن، تراكم فيها الكثير مما لا تزيله «الإشارات» و«التصريحات» التي راحت تتكاثف بدرجة كبيرة، واللافت أن جل التقديرات والتحليلات كانت تشير، ولربما لا تزال، إلى أن الدوافع الكامنة وراء «الانعطافة» التركية هي محض انتخابية، وبمعنى آخر فإن هدف النظام التركي من تلك «الانعطافة» هي توسعة التأييد الشعبي له بعد أن أضحت ورقة «اللاجئين السوريين» المقيمين على الأراضي التركية كـ«بيضة القبان» التي سترجح كفة هذا، أو ذاك، في سياق المنازلة الكبرى اليوم السبت الموافق لـ14 أيار، فيما بين «الموالاة» و«المعارضة» التركيين، والتي لن تحسم، على الأرجح، في ذلك اليوم بل ستحتاج إلى نظيرة لها صغرى سوف تتحدد نتائجها، بدرجة حاسمة، تبعاً للمخرجات التي ستفرزها «المنازلة الكبرى» سابقة الذكر، وعلى الرغم من أن تلك التقديرات تحظى بالكثير من الصوابية في سياق المعطيات التي يرسمها توازن القوى القائم راهناً في الداخل التركي، لكن الأخيرة تبدو «ناقصة» ولا بديل عن إجراء تقييمات أشمل لمعرفة «كل» الدوافع الكامنة وراء استدارة أنقرة نحو دمشق والتي قاربت أن تشعل شمعتها الأولى، فـ«الطرق» التركي على الأبواب «الشامية» بدا مختلفاً، من حيث نغمته وطبيعته، بل ومصمماً على فتحها أياً يكن حجم المعوقات التي تعتري الفعل، مما يشي بأن هذا الأخير كان يختزن مراميَ أبعد مدى مما تشير إليه تلك التقديرات، والتصريحات، آنفة الذكر.
بعد جهود حثيثة قامت بها كل من موسكو وطهران، مجتمعتين ومنفردتين، ما بعد لقاء وزيري دفاع البلدين في موسكو يوم 28 كانون الأول المنصرم، نجح الطرفان في رفع منسوب التمثيل لتصبح اللقاءات على مستوى «رأس الحربة» الديبلوماسي لكليهما، الأمر الذي تمثل بلقاء وزير الخارجية فيصل المقداد بنظيره التركي مولود جاووش أوغلو بموسكو يوم 10 أيار الجاري، وهو اللقاء الذي جرى في إطار اجتماعات «الرباعية» التي تمثل كل من روسيا وإيران ضلعيها الآخرين، واللقاء بحد ذاته يمثل تطوراً نوعياً في مسار «التطبيع» الذي يبدو شديد التعقيد لكثرة ملفاته وعوائقه، وإن كانت هذي الأخيرة لا تمثل مجتمعة «صخوراً» من الصعب إزالتها من الطريق في حال توافر عوامل من نوع «حسن النيات» و«الإرادة» القادرين على ممارسة فعل «الجرف» لكي يصبح الطريق سالكاً تماماً، بل وخالياً مما يعوق سير العربات عليه، ولربما كانت عمليات «جرد الحسابات» ستلعب، في حال أتقن القائم بالفعل عمله، دور «البلدوزر» الذي صمم أصلاً لإزالة «الصخور» التي هالتها انهيارات الجرف على كتف الطريق، وعندها ستكون كفة الميزان التي تشير لـ«مكاسب» الطرفين في وضعية الرجحان على الكفة الأخرى التي تشير لـ«خسائرهما».
لا يمكن، من خلال البيان الذي صدر في أعقاب اللقاء، الجزم فيما إذا كان هذا الأخير ناجحاً، كما وصفته الكثير من الوسائل الإعلامية، أم لا، فالبيان سابق الذكر احتوى على نقاط رئيسية ثلاث، الأولى هي التأكيد على محاربة الإرهاب، وهكذا من دون تحديد، وسيادة سورية على أراضيها، والثانية هي الاتفاق على تكليف نواب وزراء الخارجية «إعداد خريطة طريق لتطوير العلاقات الديبلوماسية» بين دمشق وأنقرة، أما الثالثة فهي الاتفاق على «مواصلة الاتصالات الرفيعة المستوى» ما يشير إلى إمكان عقد قمة قريبة بين الرئيسين السوري والتركي، ومن الواضح هنا أن البند الثاني هو الذي سيحدد فيما إذا كان اللقاء «مثمراً» و«إيجابياً» كما جاء في مقدمة البيان، حيث ستكون لـ«خريطة الطريق» التي سيعدها نواب الوزراء في سياق أخذ مطالب الطرفين بعين الاعتبار، وكذا للتوافقات التي يجب أن تتضمن خطوات التنفيذ ضمن جدول زمني محدد، القول الفصل في تحديد اتجاه السهم نحو «ناجح» أم نحو الاتجاه الآخر المعاكس.
قد تكون العلاقة التركية- السورية شديدة التعقيد بفعل اعتبارات سابقة للدور الذي لعبته أنقرة سني الأزمة السورية الأولى وصولاً إلى نحو عام مضى، وقد تكون بعض تلك الاعتبارات من النوع «المزمن» الذي يصعب الوصول فيه إلى حالة «الشفاء التام»، بل وقد تكون هناك الكثير من الشكوك السورية المحقة تجاه نيات الأتراك عموماً، والتي لا تتغير كثيراً بتغير زعاماتهم شأنهم في ذلك شأن أي قوة إذا ما خسرت جولة، أو هزم مشروعها، فخيارها يصبح إعادة المحاولة بوسائل أخرى، لكن ذلك كله لا يلغي حقائق عدة أبرزها أن حكم الجغرافيا يقول إن حدوداً بطول يزيد على 800 كم إما أن تشكل قاعدة للمنفعة والاستقرار أو تشكل الحالة النقيضة لذينك الفعلين الأخيرين، ومنها، أي من تلك الحقائق، أن التفاوض هو السبيل الوحيد لإيجاد حلول لأزمات تعصف بكياننا، وبعضها يهدد وحدته واستقراره على المديين القريب والأبعد، والمباشر منه يظل أكثر جدوى من نقيضه الذي يتم بالوساطة أو النقل.
يروي حسني محلي، الكاتب والمحلل الذي كان يشغل منصب مستشار للرئيس التركي العام 1998، أن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك كان قد تطوع للعب دور الوساطة ما بين دمشق وأنقرة على خلفية الأزمة التي حدثت بينهما خلال هذا العام الأخير، وفي سياق وساطته تلك زار أنقرة أولاً، وعندما التقى نظيره التركي فيها قال له: «اضربوا السوريين ولسوف ترون أن المنطقة، والعرب، سوف يؤيدونكم»، وعندما جاء إلى دمشق والتقى الرئيس الأسد الراحل قال له: «كان الأتراك يريدون ضربكم لكنني قمت بتحذيرهم من أن فعلا كهذا سيؤدي إلى عواقب وخيمة»، والمشكلة هنا، يضيف محلي، أن الرئيس الأسد كان يعرف مسبقاً ما قاله الرئيس مبارك لنظيره التركي حين التقاه بالأمس.