الرواية السورية في الحرب على سورية … بعض الكتاب يتماهون مع حالتهم الأيديولوجية ولا يشرّحون ما يجري
| إسماعيل مروة
تتسم الرواية فنياً بسمات تجعلها غير خاضعة للمعايير التي وجدت في أثناء كتابتها، وجميعنا يعرف ذلك الكم الأدبي والفني الذي كان نتاج مفاصل تاريخية مهمة ومؤثرة، مثل الثورة الصناعية والحربين العالميتين الأولى والثانية، وحرب فيتنام، والثورة الفرنسية، والثورة البلشفية… ولو حاولنا استعراض ما تم إنتاجه في هذه المراحل، فإننا سنجد أعداداً قليلة من الأعمال ذات السوية الفنية.
اتجاهات الكتابة
أما ما تبقى فإنه يندرج تحت عناوين:
– أدب الحماس الخاضع لمعايير وطنية نبيلة غايتها المقاومة والتحرير.
– أدب الترويج خاصة للثروات والأفكار، وتتحول إلى منشور سياسي يفقد الكثير من قيمته بعد نجاح الأفكار أو انتهائها كما في الأم لمكسيم غوركي، وكما في الروايات والفنون التي رافقت الفكر القومي العربي والثورة المصرية، بل إن عدداً ممن روجوا للأفكار انقلبوا عليها مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.
وكذلك الروايات السورية التي صدرت لكتاب يعتنقون الأفكار القومية، والبعثية خاصة كما في روايات عبد النبي حجازي، والتي لم تستطع أن تقف فنياً، وكان أثرها محصوراً في شريحة محددة وفي زمن محدد، سرعان ما تلاشي، وتحول هؤلاء إلى مرحلة في التاريخ الروائي لا يمكن أن نغفل عنها.
– أدب مضاد، وقد يكون هذا أقل بحكم السيطرة، فقد رفض كتاب مبادئ البلشفية، وحنّوا للمرحلة القيصرية، وإن كنا لا نعرف الكثير عن هذا الأدب، إلا أن كتاباً لم ينضووا تحت هذا الجناح أو ذاك، وملكوا رؤى وأفكاراً استطاعوا أن يبقوا قامات روائية وفنية كما تولستوي الذي قدم الرواية الاشتراكية العميقة دون منشور، وقدم الرواية المدافعة عن الحرية والمرأة بعيداً عن الدعاية الحزبية والأيديولوجية.
هذا من الناحية الفنية، وأزعم أن الرؤية الخالدة أو الأدب الخالد هو الذي ينطلق من رؤى فنية بحتة، ومن هوامش إنسانية لا تغفل عما يجري، لكنها لا تحمل لافتة محددة فكرية، وفي عمق تاريخنا الأدبي نجد أن حسان بن ثابت كان شاعراً عظيماً قبل الإسلام، وفي الإسلام صار شاعراً سياسياً يقدم منشوراً توعوياً، وكل الشعر الذي قاله في الإسلام ليس من شعره الذائع.. وكذلك النابغة الجعدي وكعب بن زهير وغيرهم، فالأدب الذي يحمل أيديولوجية – بغض النظر عن توجهها – يؤدي غرضه في الميدان، وفي أثناء مرحلة الصراع الأيديولوجي، ولكنه يتحول إلى مرحلة تاريخية، ولا يحمل القيمة الفنية الكبيرة.
ولن نتوقف عند الناحية الفنية كثيراً، من حيث السرد والقص والشخصيات وسواها وصولاً إلى العقدة والحل.. ولن نقف عند المستوى الفني، فلذلك وقفات أخرى للناقد أو لغيره مما يتناوبون على هذه الروايات، وإن كانت الدراسة لا تخلو من إلماحات عن القضايا الفنية… والذي يعنينا هنا هو مركب الرواية لتصبح حاملاً للأفكار والآراء، خاصة مع استمرار الحرب على سورية لثماني سنوات كانت كفيلة بإصدار إنتاج روائي مهم حجماً وقيمة، وأعطت فرصة للتفكّر والتدبر في آليات المعالجة والكتابة.. والطريف أن الحرب على سورية لم تسهم في إغناء الجانب الروائي سواء أكان يملك قيمة فنية أم لا وحسب، بل أسهمت في خلق أسماء جديدة تكتب الرواية، وتضع عليها لافتة الرواية، وهي لا تعدو أن تكون موقفاً سياسياً، أو جزءاً من سيرة لكاتبها، أو مقالة رأي لا تحمل أي مقوم فني.
الرواية والحرب على سورية
نشطت الرواية السورية مع بدء الحرب واتساع نطاقها، وامتداد الزمن، وقد انقسمت الروايات مكانياً إلى نوعين:
– روايات صدرت داخل سورية لمؤلفين يقيمون في سورية ولم يغادروا.
– وروايات صدرت خارج سورية لكتاب ومثقفين غادروا سورية، نتيجة انحيازهم إلى موقف سياسي.
كما انقسمت الرواية السورية في الحرب إلى قسمين من حيث أجيال الكتاب إلى:
– روايات نشرها كتاب رواية عرفوا بكتابة الرواية قبل الحرب، ولهم تاريخهم الروائي.
– روايات نشرها كتاب هبطت إليهم ملكة الكتابة الروائية بوحي من الحرب، وكانت روايتهم، إن صح إطلاق التسمية عليها هي رواية وحيدة، وغالباً ما تكون هذه الرواية سواء في الداخل أو في الخارج موضع نقد أو ربما شك، وأقرب ما تكون إلى السيرة الذاتية أو الموقف السياسي، ويندرج تحت هذا الصنف أغلب الروايات التي كتبها منشقون كانوا جزءاً فاعلاً في السلطة، أو ملتاعون في الداخل لفقد ولد أو أسرة، وتم تصنيف هذه الكتب تحت صنف الرواية تجوزاً أو تعاطفاً مع حالة إنسانية أو موقف سياسي.
وكذلك انقسمت الرواية من حيث التناول الفكري إلى قسمين اثنين، والصنف الثالث كان قليلاً، أما الصنفان:
– روايات وقفت مع الدولة السورية، وإن شئت المواطن السوري، وإن شئت حسب تسمية المعارضين النظام بكل التفاصيل، فلا يرى الكاتب أو الكاتبة إلا الخير في جانب الدولة، ولا يلتفت إلى سلبية أو ممارسة أو فساد، ويمارس عملية شيطنة كاملة للأطراف الأخرى.
– روايات وقفت ضد الدولة السورية، أو ما شئت من التسميات، وهذه الروايات انطلقت من تغيير مصطلحات الحرب، وممارسة عملية الشيطنة على الدولة والنظام، وقاموا بعملية تطابق تام بين الأشخاص والدولة، بل امتد الأمر بهؤلاء إلى شيطنة كل من بقي في سورية.
وقد قامت هذه الروايات في الجانبين بعملية تعبئة فكرية سلبية، وحاولت تقسيم المجتمع السوري إلى فئتين، ولم تجنح إلى ما جنحت إليه الدولة من ممارسة المصالحة الوطنية، ومن هنا تبرز أهمية الجانب الثالث، والذي كان قليلاً، وهو الذي عمل على تشريح المجتمع بشكل عام. ولم يقدم على تبني موقف سياسي محدد، فتناول أسباب الأزمة والممارسات والفساد، ووقف موقفاً صلباً تجاه الوطن والمواطنة وما نشأ ذلك من معارضة ومواقف لا تتلاءم مع مفهوم المواطنة، بل قد لا تتوافق مع مواقف للكاتب السياسي والفكري.
قد يكون هذا التلون أكثر وضوحاً في التعليق والتحليل السياسي الذي يتلون حسب المجريات على الأرض، فالواحد يملك القدرة على التغيير والتبديل وإظهار البراغماتية والتلون، في حين يصعب ذلك الأمر في الرواية، لأن النص الذي كان في مرحلة محددة كتب ووضعت نقطة آخر الرواية، وتحولت إلى الوثيقة والرأي، ويصعب التبديل والتغيير، بل يصبح محالاً!!
والرواية بصنفيها الأوليين وقفت وراءها جهات في الداخل والخارج حرصاً على دعم موقف والوصول إلى شريحة كبرى من القراء، وسترى أن الروايات التي صدرت في الخارج طبعت أكثر من طبعة أو ربما كانت مرشحة لجوائز على صعد سياسية وأدبية، في حين لم تحظ الروايات الصادرة في الداخل بهذه الشهرة، لأن النقاد والجهات المتحكمة بالنشر والجوائز تبنت فكرة النظام والمعارضة، والقائمة على التضاد، وكل ما هو ضد الدولة والنظام صار مرغوباً ويستحق!!
علماً بأن عدداً من الروايات الصادرة في الداخل اتهم كتابها من بعض الذين يتماهون مع الأشخاص، ولا يريدون تشريح الحالة.
اختيار الروايات
لو كان الوقت يتسع، والمجال المتاح في الحجم يتسع لقدمت قراءة في جميع الروايات التي صدرت، لكن المطابع كل يوم تجود بكتاب ورواية، والأمر لن يتوقف عند حد معين، ومن هنا عزمت على الاختيار وفق المنهج التالي:
– روايات تمثل الرأي الداخلي، سواء أعجب الكثيرين أم لم يعجب.
– روايات تمثل الرأي المعارض الخارجي، خاصة أن بعض هذه الأعمال لم تصل إلى شريحة كبيرة.
– روايات من الطرفين تمثل كتاباً عرفوا بالفن الروائي من قبل. – روايات أظهرت أسماء تكتب الرواية أول مرة، وربما تكون يتيمة.
أتمنى أن أكون قادراً على الوقوف من الأعمال على مسافة نقدية، لأن عملية المراجعة هذه ضرورية، خاصة أن التاريخ الأدبي أظهر بلا شك أن الكثير من الأعمال الأدبية، مهما بلغت شهرتها ليست أكثر من منشور سياسي فكري ينتهي بانتهاء المشكلة، وأزعم أن عدداً من الأعمال، وهذا العدد كبير، وهو النسبة الغالبة، سيفقد مسوغ وجوده بعد انتهاء الحرب، وجلاء الأمور، ويتحول إلى وثيقة شخصية لكاتبه، ووثيقة إدانة دامغة لا يستطيع التحلل منها مع الزمن..
الغاية الأساسية لأي عمل روائي هي الغاية الفنية التوثيقية. وليست الغاية السياسية غير النبيلة، وعندما تتحقق الغاية ستتحول الأعمال الروائية إلى وثيقة، وإلى منهل لكتابة التاريخ الحقيقي الذي لا يتحكم به الأقوياء.
وأختم بما قرأته لنعوم تشومسكي في كتابه ( الدول المارقة) عند الحديث عن الحرب في أندونيسيا، إذ قال نقلاً عن وزير الخارجية الأميركي، بأنه كان من الممكن أن تتوقف الحرب من الأيام الأولى، لكنني نفذت ما تريد سياستنا الأميركية على عكس الأمم المتحدة، لنؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة، وأن الذي يحدث ما تريده القوة.
هذه دعوة أولى لقراءة الأدب الروائي السوري الذي صدر راصداً للحرب في الداخل والخارج، والوقوف عنده من النواحي الفنية والفكرية، للوصول إلى معادلة أدبية وروائية مختلفة بكل المعايير، لتكون الرواية راصداً ودارساً، وليست مجرد منشور سياسي.