جولة الحرب الأخيرة بين «الجهاد الإسلامي» والعدو الإسرائيلي، لم تكن كغيرها من الجولات الإسرائيلية السابقة وعلى مدى الأعوام الـ 14 الماضية.
فرغم الخسائر الفادحة على مستوى القيادة بيد أن حركة الجهاد انتهجت تكتيكاً دقيقاً في إدارة المعركة بكفاءة عالية وبالتنسيق مع محور المقاومة، وهذا التنسيق منحها القدرة على امتصاص صدمة الضربة الإسرائيلية الأولى الخاطفة التي أسفرت عن اغتيال ثلاثة قادة من الصف الأول بحركة الجهاد، فكان لا بد من إطلاق عملية «ثأر الأحرار» وبتوقيت «الجهاد» المناسب، كرد على الاغتيالات والجرائم الإسرائيلية.
صحيح أن صمت المقاومة أعقب عملية الاغتيال الغادرة لثلاثة من أبرز قادة «سرايا القدس»، ووقعها كان ثقيلاً على الحركة وعلى بيئة المقاومة، وظن الكثيرون أن الأمر انتهى بمجرد تنفيذ العدو لعملية الاغتيال، ليتبين فيما بعد أن فترة صمت المقاومة كان من ضمن عملية «ثأر الأحرار» المدروس، وهذا ما كان واضحاً على سير المعركة، وعلى مدار الأيام الخمسة.
فترة صمت المقاومة القصيرة، أثرت سلباً في جبهة العدو الداخلية، بينما كانت المقاومة تدير معركة «ثأر الأحرار» بعناية ودقة، الهدف منها إنهاك العدو الإسرائيلي، وإظهار حقيقة تآكل قوة ردع العدو، الأمر الذي أدى إلى الكشف عن انعدام في قدرة العدو على التحكم بمفاصل المعركة، وحتى عجزه عن إنهائها.
إذاً خمسة أيام من المعارك، إدارتها حركة الجهاد بنجاح باهر وبدقة متناهية، جعلت من أعضاء الحكومة الإسرائيلية المصغرة، يصرخون بوجه رئيس وزراء العدو بيامين نتنياهو «لقد تورطنا»، بل أكثر من ذلك، فقد بُحَ صوت نتنياهو بعد أكثر من مئة اتصال هاتفي، مع السلطات المصرية والأميركية والقطرية، بهدف الضغط على حركة الجهاد، وإجبارها على القبول بوقف إطلاق النار، لكن جواب الحركة، لا وقف لإطلاق النار قبل التعهد بوقف الاغتيالات ضد القادة وضد المدنيين الفلسطينيين.
التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، لا يعني أن المعركة قد انتهت بأي حال من الأحوال، فما حصل عبارة عن انتهاء جولة ضمن جولات وجولات، لا يمكن وقفها إلا بتحقيق التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وحصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه المشروعة، لكن يمكننا القول بكل ثقة، إن حركة الجهاد ربحت في هذه الجولة، بعدما نجحت في انتزاع تعهد غير مسبوق من العدو الإسرائيلي، قضى بوقف الهجمات على المدنيين وعلى منازل المدنيين.
الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين حركة الجهاد والعدو الإسرائيلي بصيغته النهائية، مشابه لظروف اتفاق نيسان اللبناني 1996، عقب جولة من القتال بين حزب اللـه والعدو الصهيوني، والتي عرفت حينها «بعناقيد الغضب»، التي رسّخت قوة المقاومة بإقرار واضح من العدو الإسرائيلي نفسه.
رضوخ العدو الإسرائيلي لشروط الجهاد، يعني اعترافه والوسيط بانتصار بائن لحركة الجهاد وإقرار موقّع يعترف بحركة الجهاد كفريق وازن لا يمكن تجاهله بعد اليوم، تماماً كما سبق أن حصل في لبنان 1996، بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين حزب اللـه والعدو الإسرائيلي عبر طرف ثالث، عقب عملية «عناقيد الغضب» الإسرائيلية، ورغم الخسائر الفادحة بأرواح المدنيين الذين هربوا من الغارات الإسرائيلية، واحتموا في مراكز الأمم المتحدة في قانا جنوب لبنان، فقد شكل الاتفاق حينها انتصاراً بائناً لحزب اللـه في تلك المعركة أدى إلى انتزاع اعتراف رسمي بدور المقاومة في لبنان.
صحيح أن خسارة قادة ميدانيين في «سرايا القدس» حدث مؤلم، فالعدو الصهيوني اعتقد أنه باغتيال قادة الجهاد في مركز القرار العسكري قد كسب نصف الحرب، بيد أن حركة الجهاد من خلال إدارتها للمعركة بكفاءة عالية، أثبتت للإسرائيليين أنفسهم بأنهم يعيشون في كيان، هو أوهن من بيت العنكبوت، وأن قياداتهم غارقة في وهم القضاء على المقاومة الفلسطينية وإعادة عقارب الساعة للوراء، ومما أعطى المقاومة دفعاً مهماً لتحقيق الانتصار في جولته الأخيرة، ما جاء على لسان الأمين العام لحزب اللـه حيث قال: نحن على اتصال دائم بغرفة عمليات المقاومة في غزة، ودقيقة بدقيقة وبوساطة الإخوة، ونقدم لهم المشورة والخبرة، ولن نتردد في تقديم المساعدة، في أي وقت تفرض المسؤولية ذلك.
إن القاسم المشترك بين «ثأر الأحرار» و«عناقيد الغضب» يثبت وفي كلا الحالتين أن أصحاب الأرض هم الغالبون، رغم تعمد البعض التبخيس من إنجازات المقاومة، ففي لبنان 1996، برزت أصوات معروفة وفي موقع المسؤولية، تنكّرت لانتصار أصحاب الأرض وتبرّأت من الإقرار بدور المقاومة الرادع للعدو الإسرائيلي.
واليوم بعد التوصل لاتفاق وقف لإطلاق النار بين «الجهاد» والعدو الإسرائيلي، برزت أصوات وتصريحات لشخصيات رسمية، وتعليقات عبر وسائل التواصل، فيها الكثير من التشكيك بانتصار الجهاد الإسلامي في معركة «ثأر الأحرار»، أولئك هم الانهزاميون، الذين لاموا حركة الجهاد على خوضها حرباً غير متكافئة، واصفين الإعلان عن انتصار المقاومة الفلسطينية بأنه مجرّد من الواقع، لأن «الجهاد» لم تستطع اغتيال القادة الإسرائيليين، رداً على اغتيال قادة الحركة، وأن عدد الشهداء الفلسطينيين من المدنيين بالمئات، مقابل قتيل واحد من الإسرائيليين، ويتساءلون أين الانتصار الذي تتكلمون عنه؟
لن أرهق القارئ بالتفسير، لكن لكل الذين يبخسون المقاومة حقها في الانتصار، ولأولئك الانهزاميين أصحاب السوء، أقول سأحيلكم إلى ما قاله العدو نفسه على لسان محرر الشؤون العربية في الإذاعة الإسرائيلية جاكي حوجي حيث قال للجمهور الإسرائيلي: «لماذا تتهمون حركة الجهاد الإسلامي بالكذب؟ فلنعترف أنها حققت النصر»، ويكمل المحرر الإسرائيلي بالقول: «الفلسطينيون شلوا حياة مليون ونصف المليون إسرائيلي وأبقوهم في الملاجئ طوال فترة القتال حتى اللحظة الأخيرة دون أن ينكسروا، والدليل أنهم قاموا بإطلاق الرشقة الأخيرة من الصواريخ لكي يثبتوا أنهم شامخون صامدون، وبسبب هذا الصمود نجحوا في تعرية الجندي الإسرائيلي محققين النصر وأنهم لن ينكسروا.
صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية نشرت في افتتاحيتها للكاتب الصهيوني الشهير آري شبيت تحت عنوان: «إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة» ويقول فيها: يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ويضيف، الفلسطينيون هم فعلاً أصحاب الأرض، ومن يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده بهذه الشراسة، لن ينكسر، وهذا التحدي لم يبذل إلا من قبل أصحاب الأرض، وعلينا أن ندرك أنه لا بد أن يأتي يوم، سنضطر فيه إلى دفع الفاتورة كاملة، وعلى قادة دولة إسرائيل أن يعلموا أن الفلسطيني ومن تحت التراب ومن بين الأنقاض وركام المنازل، سيُبعث من جديد ومن جديد ومن جديد، وسيُقبل علينا راكباً فرسه متجها نحو تل أبيب.