أنبأ وصول «اليمين» الإسرائيلي إلى سدة السلطة نهاية العام المنصرم بسيناريوهات كانت متوقعة سواء أكان ذلك في تعاطيه مع مسائله الداخلية التي بدت تسير نحو اختناقات من الصعب إيجاد «تسليكات» لها، أم في تعاطيه مع الفلسطينيين الذين ما استطاعوا تحقيق الحد الأدنى لمطالبهم في ظل حكومات كانت أكثر «اعتدالاً» فكيف والأمر إذا ما كان إيتمار بن غفير هو «حكيم الأمة» وواضع نظرياتها الأمنية، بل محدد «الشمال المغناطيسي» لبوصلتها التي يجب عليها أن تشير إليه؟
قبيل أن تندلع النار في غزة كان كيان الاحتلال يواجه «إحدى أصعب الأزمات في تاريخه» وفقاً للتوصيف الذي استخدمه المستشار السابق لرئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو (مئير بن شبات)، في لقاء أجرته معه صحيفة «معاريف» التي نشرت استطلاعاً لآراء العديد من مسؤولي الكيان السابقين والراهنين في سياق استبيان تراصف القوى والتيارات على ضفتي الأزمة التي اصطلح على تسميتها بقانون «الإصلاح القضائي»، والمؤكد هنا هو أن توصيف بن شبات كان له ما يبرره، فإسرائيل اليوم تواجه أزمة ذات طابقين، أولهما داخلي برز من خلال التظاهرات غير المسبوقة على خلفية طرح القانون السابق الذكر، وهي أشارت بقوة إلى بنيان ضعيف ومفكك تتناوشه أسئلة كبيرة تطول الهوية والرؤية ثم ماهية قواعد اللعبة «الديمقراطية» في حالات الخلاف، وأخطر ما فيها بروز إنموذج «الثنائيات» الحادة التي تعني انقسام المجتمع إلى «مع أو ضد» ما يشير إلى غياب اللواصق القادرة على تخفيف الزوايا الحادة لتلك الثنائيات، وثانيهما أن الكيان، ورغم ما حققه من اختراقات وازنة في محيطه، لا يزال محاطاً بجو عدائي يرى فيه كياناً سرطانياً لا بديل من استئصاله، وهذا بالتأكيد لا يزال يشكل عوامل ضغط كبرى على غرف صناعة القرار، ويدفع إلى احتدام الصراعات الداخلية بدرجة تشكل خطورة عالية على بنيانه، وتلك الدرجة، أعلى بما لا يقاس مما قد تعكسه عوامل الضغط الآنفة الذكر على دواخل أي دولة في العالم.
نشرت صحيفة «هآرتس» شهر نيسان الماضي وثيقة سرية صادرة عن وزارة الخارجية الإسرائيلية تقول بـ«التأثير السلبي للسياسات التي تتبعها حكومة نتنياهو على مكانة إسرائيل السياسية في العالم»، وقد ذكّرت الوثيقة بـ«الانتقادات العلنية التي وجهتها دول صديقة لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا»، قبيل أن تخلص إلى نتيجة مفادها أن تلك الدول «باتت لديها مخاوف بشأن مستقبل إسرائيل الديمقراطي» بل أيضاً «مستقبل إسرائيل الوجودي الذي سيتحدد أولاً عبر تماسك البنيان الداخلي بعيداً عن كل أشكال الدعم الخارجي على أهميتها».
لربما كان «الإنموذج» الإسرائيلي فريداً من نوعه في العالم، فهو في صياغاته العميقة قام أساساً على نواة تمثلت بـ«جيش» ابتنيت من حوله شرائح وطبقات شكلت قوام «المجتمع» الإسرائيلي وتياراته الفاعلة، وليس العكس، ولذا فإن أي خلل في أداء «النواة»، خصوصاً إذا ما كان ناجماً عن عطب بنيوي، فإن ذلك سيشكل مقدمة لانفراط «عقد الملتفين»، والراجح هو أن تباشير سيناريو كهذا تبدو آخذة بالتبلور وهو الأمر الذي يمكن تلمسه في حروب غزة التي شهدت جولتها السابعة أخيراً وفي غضون لا يزيد على عقد ونيف، والشاهد هو أن العديد من المعطيات تشير إلى تآكل «قوة الردع» عند «النواة» بشكل بات يهدد بتفتح جروح غائرة لم تستطع العقود السبعة ونصف العقد ترميمها، حيث من المؤكد أن «قوة الردع»، كانت قد ساعدت، جنباً إلى جنب «عداء المحيط»، في كبح جماح التناقضات التي يمتلئ بها البنيان بدرجة جعلت منها شبه خامدة على الرغم من حدتها.
كشفت حروب غزة السبع بدءاً من العام 2007 حتى الآن أن تداعياتها على الداخل الإسرائيلي تفوق بما لا يقاس نظيرتها على الضفة الفلسطينية دون أن يعني ذلك التخفيف من هذه الأخيرة حيث «الانقسام» فيها ظل قائماً بل تعددت ساحاته ليمتد إلى النسيج الرافض لاتفاق «أوسلو»، الفعل الذي تشرحه موجبات عدة من نوع الحسابات الميدانية والارتباطات الخارجية لكل فصيل من فصائل هذي الأخيرة، ولذا فإن المواجهات الحاصلة ما بين جيش الاحتلال و«الجهاد الإسلامي» في غزة منذ 8 أيار الجاري لم تخرج في سياقاتها عن تلك التي وقعت منذ معركة «سيف القدس» حتى الآن، بل لم تخرج سياقاتها التفاوضية عما سبقها، حيث القاعدة التقليدية تقول بمسارعة القاهرة إلى عقد جولات من التفاوض بين المتحاربين وصولاً إلى توقيع اتفاق هدنة، وليس مهماً هنا أن يكون هذا الأخير قصير الأمد أم طويلاً، ما دام الهدف هو حصار النار ومنعها من التمدد فحسب.
تقول التقارير الصادرة عن مفاوضات القاهرة إن وفد «الجهاد الإسلامي» يركز على التزام إسرائيل بعدم اغتيال القادة العسكريين، حيث نجحت الأخيرة في غضون المواجهات الراهنة باغتيال ثلاثة من كبار ذلك الفصيل، ولربما كان ذلك «أهون الشرور» عند كيان الاحتلال الذي لن يلتزم بأي اتفاق قبيل أن يستطيع «تلميع» صورة جيشه، وكذا حكومته التي تشير آخر استطلاعات الرأي إلى أن أحزاب المعارضة الحالية سوف تتمكن من تشكيل حكومة جديدة في حال جرت انتخابات مبكرة لـ«الكنيست»، ونحن نطلق هنا توصيف «أهون الشرور» على تركيز وفد «الجهاد الإسلامي» الآنف الذكر لأن المطلوب، والموجع أكثر، هو التزام إسرائيل بعدم استهداف المدنيين، حيث الفعل هنا «يستهوي» المجتمع الدولي بدرجة أكبر، بل إنه كفيل بإتمام رسم معادلات هذا الأخير المحيطة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي في وقت وصلت فيه، هذي الأخيرة، إلى عتبات مرتفعة، والمطلوب هو إعلاؤها مع استخدام دائم لـ«شاقول» الردع لكي لا يميل الحائط، وهو الذي تم بحسب ما أعلنته المقاومة الفلسطينية بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.