عبد الوهاب قطرميز من ظرفاء دمشق في القرن العشرين
| أنس تللو
قد يظن ظانّ أن الظرافة تنبع من جو عائلي ظريف أو من مجتمع مخملي لطيف، إلا أن الحقيقة غير ذلك، إذ كثيراً ما تكون العوائق حافزاً لتحقيق الرغائب…
هاهو عبد الوهاب قطرميز عاش حياة ملؤها المآسي، حافلة بجراح عديدة، لكنه لم يكن يشتكي لأحد… ولعلَّ هذا الألم المكبوت هو الذي عبَّد له الطريق إلى قائمة ظرفاء دمشق.
كان المرحوم عبدو قطرميز ذا ظرافة متميزة، اشتهر بسخريته وسرعة بديهته، وكان يمزج بين قريحته وظرافته ليقدم من خلالهما جواباً سريعاً عن كل سؤال؛ ولكن ليس أي جواب… كان يقدم أجوبته مغلَّفةً دوماً بالنكتة المبتكرة…
إن أثقل شيء على السمع هو الحديث المعاد، لكن مع عبد الوهاب قطرميز كان الأمر دائماً مختلفاً، ذلك أنه كان يملك بديهة تمكِّنه دوماً من الابتكار في المضمون الساخر أو التجديد في الأسلوب الضاحك.. سنوات عديدة لم يكرر حكاية واحدة، وإذا حصل فإنه يعيدها بأسلوب يجعل المستمع راغباً دوماً بتكرار الاستماع إلى الطرفة نفسها، لأن هذه الطرفة يصبُّها دوماً الظريف عبدو قطرميز في قالب متميز جديد يُكسِبها بهجة جديدة، وهذه- لعمري- ميزة فريدة قلَّ من يمتلكها.
ومن المعروف عن عبدو قطرميز أنه كان كريماً جداً حتى إنه بدد ثروة كبيرة ورثها عن أبيه.
وقد دخل مرة مع زوجته إلى مطبخ أحد الأصدقاء، فرأى عدة قطرميزات على رفوف المطبخ وفي السقيفة، فقال لها: انظري كم أن عائلتي كبيرة، إن أفراد عائلتنا منتشرون في كل مكان.
في معهد اللغة الألمانية
انتسب المرحوم عبده قطرميز إلى معهد اللغة الألمانية، وكانت زوجته ألمانية، وذات مرة قدمت الأستاذة الألمانية محاضرة سريعة، وبما أن عبد الوهاب قطرميز كان متزوجاً من فتاة ألمانية فقد ظن الطلاب أنه هو الوحيد الذي يفهم المحاضرة بشكل جيد، فسألوه عن فحواها، فقال: كانت الآنسة تتحدث عن جمال الطبيعة.
ووصفت لنا فوائد التأمل لهذا الكون الجميل، ثم قالت إن من الأفضل لنا في هذا الطقس الممتع أن نخرج في نزهة وننطلق إلى الطبيعة لنروِّح عن أنفسنا، وبالتالي فقد قررت المدرِّسة أننا يجب أن نكون هنا غداً في الساعة التاسعة صباحاً، ومعنا كل لوازم الرحلة.
والواقع أن محاضرة الأستاذة لم تكن كذلك، فقد تحدثت عن ضرورة الالتزام بواجبات الدراسة ومراعاة قواعد الانضباط في السلوك، والتقيد بمواعيد دفع الأقساط… لكن عبد الوهاب قطرميز أراد أن يوقع الطلاب في مقلب ضاحك.
وفي اليوم التالي جاء الجميع مستعدين للرحلة حاملين أمتعتهم ومبتسمين ترقباً لمتعة النزهة، في حين جاء هو يضحك بسخرية من وجودهم، فلما تعجبوا من سخريته صارحهم وأعلمهم بالفحوى الحقيقية لمحاضرة أمس، فاغتاظوا منه بشدة، وكادوا أن يهاجموه ليثأروا منه، وما أنقذه منهم إلا أنه أخذ يلوِّح لهم ببطاقات لرحلة القطار الذي سيقلهم إلى مصيف الزبداني في رحلة ممتعة وعلى حسابه الشخصي.
هكذا كانت حياته… دعابة ومرح وكرم… لا يفكر بالغد، ولا يلوي على شيء، ولعله لو كانت حياته منتظمة ومستقرة لغدا نادرة عصره وراوية زمانه، لكنه من المؤكد أنه قد عاش حياته سعيداً لأن ظرافته جعلته يتمكن من تحرير ألمه المكبوت.