المتابع لتطور الأحداث في النظام الإقليمي وما تشهده من تسارع لوتيرة المتغيرات والمواقف، لا بدّ لهُ أن يلّحظ حصول تطورين لافتين خلال أقل من الأسبوع، الأول: يتمثل فيما شهدته ومن المتوقع أن تشهدهُ اجتماعات الجامعة العربية التي تستضيفها مدينة جدة السعودية، بينما يتمثل التطور الثاني بنتائج الانتخابات التركية التي شكلت نتائجها ولاسيما الرئاسية منها، منعطفاً تحذيرياً للرئيس التركي ومرشح حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان الذي خطا نصف المسافة في طريق عودته للرئاسة للمرة الأخيرة، وفق ما ينص عليه الدستور التركي المعدل، ولكن ببرلمان مقيد اليدين ومسار محفوف بالمخاطر.
بالعودة للقمة العربية واجتماعاتها التحضيرية، فإن أهميتها لا تكمن بالانعقاد ولا بتوقيتها ولا بمكان استضافتها فحسب، في الحقيقة تكمن الأهمية بثلاثة مسارات إضافية متلازمة عضوياً لا يمكن فصل ارتباط بعضها عن بعضٍ، وهذه المسارات تتجلى في الصور التالية:
أولاً- الدبلوماسية السعودية: كان لافتاً منذ وصول إدارة الديمقراطيين للسلطة في الولايات المتحدة الأميركية أن هناك ارتدادات بدأت تتأثر بها السياسة الخارجية السعودية، وخاصة أن هناك العديد من النقاط الإشكالية الأميركي بين الرئيس جو بايدن والعائلة الحاكمة السعودية، إلا أن الجانب الشخصي في سياسات الدول ليس لها التأثير الأكبر، ولكن نتيجة تبني العديد من السياسات والإستراتيجيات الأميركية في فترة الديمقراطيين بشكل لا تتناسب مع مصالح الدول الحليفة لها، وانخراط واشنطن في صراعات جيوإستراتيجية، وتركيز اهتمامها بشرق أوروبا في أوكرانيا، وجنوب شرق آسيا، دفعت القيادة في المملكة لإعادة مراجعة معالم صنع سياستها الخارجية، وانعكس ذلك حتى في البرودة التي اعترت مظاهر الاستقبال السعودي للرئيس بايدن في أثناء زيارته السعودية في أب 2022، على عكس الحفاوة التي تلقاها الرئيس الصيني شي جين بينغ في أثناء زيارته للمملكة مطلع العام الحالي، والحفاوة ذاتها التي استقبل بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نهاية عام 2019، وهو ما كان يدل على أن المملكة لم تستدر بتحالفاتها بقدر ما كانت تسعى إلى:
1. توسيع سلة حلفائها وشركائها الدوليين وعدم حصر هذه التحالفات الإستراتيجية بالولايات المتحدة الأميركية.
2. العمل على إحداث تغيير في السياسة الخارجية من مقاربة الصراع والمنافسة إلى سياسة تصفير المشاكل وحل الأزمات، بما يعيد ترتيب التوازن الإقليمي ونظامه المتصدع.
3. السعي نحو طرح مشاريع جيواقتصادية والدخول في شراكات ضمن هذا المسار لتحقيق تنمية شاملة وتأثير أكبر.
ثانياً- الحضور السوري: تمثل عودة سورية لشغل مقعدها في الجامعة العربية خطوة إيجابية في تصحيح أخطاء الماضي، دون الحاجة للخوض في تفاصيله، إلا أن هذه العودة والحراك العربي يجب أن يوظف في سياقه الصحيح، إذ إن عودة سورية للجامعة لا تعني عودة العلاقات لكل دولة عربية مع سورية على ما كانت عليه في السابق، كما أن التعاون الاقتصادي والأمني والسياسي ما بين هذه الدول وسورية يحتاج إلى آليات جديدة تتلاءم وتتناسب مع متطلبات المرحلة، بما فيها كسر الحصار الاقتصادي وعودة اللاجئين ودفع المسار السياسي.
غير أن الإيجابية التي بادرت بها سورية في استقبال هذه الحراك بتمثيل اقتصادي وسياسي في الاجتماعات التمهيدية، وربما تتوج بمشاركة الرئيس بشار الأسد في قمة الزعماء يوم الجمعة المقبل، تحمل العديد من الإشارات:
1. رغبة سورية في تفعيل العمل والتعاون العربي المشترك بما يحقق مصالح الدول كافة.
2. الحاجة المتبادلة لتفادي أخطاء الماضي والتطلع إلى المستقبل من خلال التعاون بدلاً من الخلاف والصراع.
3. الحاجة لإعادة الثقل والمكانة للجامعة العربية في ظل التطورات والمتغيرات المتسارعة التي يشهدها النظامين الإقليمي والدولي، والتي تفرض على الدول العربية تفعيل تكتلهم لمواجهة التحديات الراهنة ووضع رؤية أمنية وسياسية واقتصادية وعسكرية مشتركة لتحقيق ذلك.
ثالثاً- المواقف العربية من عودة سورية، فقد كان لافتاً الترحيب العربي أو من معظم الوفود العربية بالحضور السوري في الاجتماعات التمهيدية، وهو ما يؤكد الدور والمكانة السورية لدى الدول العربية.
أما في الشق الآخر من المشهد فقد سارت نتائج الانتخابات التركية عكس ما تمناه رئيس حزب العدالة والتنمية ومرشحه الرئاسي رجب أردوغان، فلأول مرة منذ وصوله للسلطة يقع أردوغان في مصيدة سياساته، فقد استطاع في الانتخابات السابقة 2018 من تحقيق فوز بالانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى رغم وجود ستة مرشحين منافسين له وحقق نسبة تزيد على 52 بالمئة، على حين أنه عجز بالجولة الأولى من انتخابات 2023 من بلوغ النصاب المطلوب والمقدر بـ50+1، ليتمكن من البقاء في السلطة، بينما تمكن تحالفه المعروف بـ«تحالف الجمهور» في الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان بعد حصولهم على 321 مقعداً، بينها 266 مقعداً لحزب العدالة والتنمية، وهو ما يعني أن أردوغان أو خصومه لن يتمكنوا من اتخاذ قرارات إستراتيجية مثل تغيير الدستور أو تعديل أحد بنوده، لكون مثل هذه القرارات تحتاج إلى أكثرية الثلثين وهو ما أخفق أردوغان تحقيقه منفرداً أو داخل تحالف.
الجولة الثانية من المؤكد وفق كل المعطيات أنها ستعيد أردوغان للسلطة، إلا أن إخفاقه في تحقيق ذلك من الجولة الأولى وعدم حسمه أكثرية ثلثي البرلمان يجب أن تدفعه لمراجعة سياساته الداخلية والخارجية التي جلبت له الانحسار في النفوذ.
من جدة إلى أنقرة تطورات دراماتيكية بين التغيير في المواقف وانقلابات المشهد، وربما حتى تكتمل الصورة أكثر وتتبلور صيغة المصالحات بعد التقارب السعودي الإيراني: هل ستشهد كواليس هذه القمة قمة ثنائية سورية سعودية، وربما رباعية تنضم إليهما مصر والإمارات؟ وهل نشهد جهوداً سعودية لإجراء مصالحة سورية قطرية؟
أسئلة كثيرة تفرضها التطورات التي قد تقودنا ربما خلال القمة لأن نشهد دعوة روسية صينية إيرانية وربما تركية لحضور هذه القمة بصفة ضيوف، ففي السياسة لا خصوم دائمين ولا صداقات مستمرة، لذلك تعرّف بأنها الفن الممكن.