ضحكت كأنني أبكي عندما قرأت قبل أيام بيان وزارة الخارجية السودانية الذي تقول فيه: «لا تفاوض ولا صلح مع الدعم السريع». وقد هاجت بيّ المشاعر المتناقضة، إذ تذكرت لاءات قمة الخرطوم الثلاث التي عقدت في 29 آب 1967 وطلعت علينا بلاءات الزعيم عبد الناصر الثلاث: «لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض».
أصارحكم بأن السودان لم يغب عن بالي منذ بدء الأحداث التي تعصف به حالياً لأن الجنرال الأميركي ويسلي كلارك سبق أن كشف خطة أميركا لقلب أنظمة الحكم في سبع دول هي العراق ولبنان وسورية وليبيا والصومال والسودان وصولاً لإيران. والهدف غير المعلن من هذه الخطة، ليس الإطاحة بالحكومات التي تشكل تهديداً للكيان –السرطان فحسب بل نهب ثروات هذه البلدان وتدمير قواها الكامنة كي تبقى شعوبها مستنزفة باستمرار، تلهث خلف رغيف الخبز وأسطوانة الغاز… إلخ. وأوقح دليل على هذه السياسة الإجرامية القذرة هو حرق الأميركان حقول القمح في الجزيرة السورية بوساطة الحوامات، وقيامهم بسرقة بنك البذار السوري، (إيكاردا) بحجة وضعه في مكان آمن.
في شبابنا قالوا لنا: إن السودان هو «سلة الغذاء العربي» وقد تأكدت من خلال قراءاتي أن هذه المعلومة لا تنتمي إلى عالم الأماني مثل كثير من تصوراتنا الوردية عن قدراتنا، فالسودان مؤهل فعلاً لأن يحقق الاكتفاء الزراعي للعرب، لأن تفعيل إمكانياته الكامنة كفيل بجعله بين أغنى الدول، فهو يملك سادس أكبر ثروة حيوانية في العالم وفيه مئتا مليون فدان من الأرض الصالحة للزراعة يرويها النيل العظيم الذي هو أطول أنهار كوكبنا، غير أن تلك المساحات لا يزرع منها حالياً سوى القليل.
ما الذي يجري في السودان؟
أحسب أنه ما من عربي لم يطرح على نفسه هذا السؤال، فالجنرالان المتصارعان في السودان هما من طينة واحدة، ولا يختلفان على السياسات ولا الرؤى ولا المبادئ، بل يتصارعان على السلطة من دون مزايدات ولا أقنعة! وبصفتي كاتب سيناريو اسمحوا لي بأن أعيد ترتيب الأحداث وفق قانون السببية.
بدأ الفصل الأول من المأساة عندما قام الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير بتشكيل قوات الدعم السريع، لحماية حكمه من المنافسين، لكن الجنرال البرهان استمال حميدتي قائد الدعم السريع وعيّنه نائباً له في رئاسة مجلس السيادة بعد نجاح انقلابهما. وبعد اكتشاف مناجم الذهب في الشمال تولى حميدتي تصدير المعدن النفيس، فتضخمت ثرواته وقواته ولم يعد كرسي النائب يتسع له، على ما يبدو.
أصارحكم بأن قصة السفيرة الأميركية في العراق أبريل غلاسبي، التي أعطت «الضوء الأخضر» لصدام حسين كي يغزو الكويت لم تغب عن بالي منذ بدء الأحداث في السودان، حتى بات لدي شبه قناعة بأن دبلوماسياً غربياً ما، قام بدور غلاسبي في السودان، ويخيل إلي أن ذلك الشيطان الصهيوني – الأميركي لم يوسوس لحميدتي كي ينقلب على شريكه برهان فحسب، بل قام بإبلاغ ذلك الشريك – أي الجنرال برهان – بلحظة تحرك قوات غريمه حميدتي، كي ينخرط الجنرالان في حرب لا تقوم بعدها للسودان قائمة!