دائماً ما أُكرِّر الاستشهاد بعبارة «القائد هو تاجرُ الأمل»، لأنه قادر ببساطة أن يضع شعبهُ على حدودِ الغيم عبرَ الوعود الكاذبة والمنفصلة عن الواقع، لكن ليسَ هناك من عبارة قيلت يوماً إلا وكنا قادرينَ على الاستنساخ منها، فماذا لو أصبحت «القائد هو صانعُ الأمل»؟ بالتأكيد لن يكونَ كذلك إلا عندما يستند في كلامهِ ومواقفه إلى القاعدة الشعبية التي تنتمي إليه، هذا الكلام قلناهُ قبيل الانتخابات الرئاسية بمقالٍ بعنوان: عن الانتخابات الرئاسية وشعار «الأمل بالعمل».. هلْ لي أن أُحدّثك؟
لم يكن لديَّ شك يومها وأنا «أحدثه» بأن الوعود والشعارات والمواقف التي تنبثق من ألمِ الفقراء، وفاءِ النبلاء، حزن الثكالى وإصرار رجالٍ عاهدوا فصدقوا، هي الأمانة الأغلى التي يصبح معها «القائد هو حارس الأمل»، تلكَ الكلمة التي ما زالَ من في قلبهم وجل يظنونها مجردَ إبرة تخديرٍ، فيما لا يزال المؤمن بها يعرف بأن الانتصار على اليأس قرار قبل أن يكون خَيَاراً!
هكذا حملَ الرئيس بشار الأسد الأمانةَ إلى مؤتمرِ القمة العربية التي استضافَتها مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، هذهِ القمة التي شكلت ودون أدنى شك الحدث السياسي الأبرز في العالم العربي منذُ قمة بيروت في عام 2002 والتي تم فيها طرح المبادرة العربية للسلام، لتدخلَ بعدها القمم العربية مع ما تعرضت له المنطقة من مؤامراتٍ واحتلالاتٍ وانهيارات، مرحلةَ ضياعٍ لتكون هذه القمة منعطفاً كبيراً نحو صيغةٍ متوازنة لإعادة تفعيل العمل العربي المشترك، فنجاح هذه القمة كان نجاحاً لكل عربي ما زال يتمسك بعروبته، ليصبح السؤال الجوهري هو التالي: هل علينا فعلياً أن نتفاءل؟!
للإجابةِ عن هذا السؤال لابد أولاً من مناقشة نقطتين جوهريتين:
أولاً: هكذا علّمنا التاريخ
عند الحديث عن الإيمانِ بحقيقيةِ نهوض هذه الأمة مهما طالَ الزمن، فإن هكذا عبارات كانت ولا تزال عرضة للاستهزاء أو النقد الجارح، عن أي أمةٍ أو أي عروبةٍ نتحدث؟ ما هي مقومات هذا النهوض؟ لكن دعونا فعلياً لا نغوص كثيراً بحقيقةِ ما هي هذه الأمة أو العروبة، لأنها مهاترات لا تستحق الرد عليها، بالوقت ذاته ومن باب المصداقية دعونا نتجاهل كل الإيديولوجيات السياسية التي تتبنى العروبة لأن العروبة سابقة للأحزاب من دون استثناء تماماً كما أن الأخلاق سابقة للأديان من دون استثناء، أنا عن نفسي أعشق العروبة التي تحدث عنها الرئيس بشار الأسد «عروبة الانتماء» ولا تعنيني عروبة الأحضان ولا عروبة الإيديولوجيات، دعونا نضع كل ذلك جانباً ونأخذ التجربة الأوروبية مثالاً، بماذا تتفوق علينا كل من فرنسا وألمانيا؟
ألم تعانِ الدولتان ومعهما المحيط الأوروبي بالكامل من الحربِ والدمار والخراب، ألم تصل القوات الألمانية إلى باريس ونواة تحريرها في العام 1944 كانت المقاومة الفرنسية؟ بمعزلٍ عن كونها حرباً مباشرة انتهت بانتصارِ فرنسا بمساعدةِ الحلفاء لكننا نتحدث عن عدم تفويتِ فرصة تحقيقِ السلام بين الدولتين اللتين شكلتا بالإضافة للمتضرر الآخر من الحرب إيطاليا نواة لفكرة إنشاء الاتحاد الأوروبي الذي كان يهدف أساساً للخروج من حالةِ الحرب إلى السلام بين الشعوب، لم نسمع يومها من قال: وماذا عن الذين قُتلوا دفاعاً عن فرنسا؟ لم نر من شعر باليأس عندما لم تُطبق أفكار التعاون السلمي بين الدول الأوروبية قبل أكثر من مئةِ عام على تحقيقها عبر الاتفاقيات الأوروبية في العام 1955، هذا مع التذكير بأن فرنسا عملياً خرجت من الحكم الملكي مع ثورة 1799 ومرت بمتغيراتٍ عدة بما فيها التحرر من سلطة الكنيسة مروراً بالعلمانية الجامعة وصولاً لدستور الجمهورية الخامسة في العام 1958، أي إن هذه التحولات استغرقت أكثر من قرنٍ ونصف من الزمن، هل يستطيع أولئك اليائسون من نهوض هذه الأمة أن يشرحوا لنا متى تحررت آخَر دولةٍ عربية ومتى بدأ فعلياً التحرر السياسي الذي هو أهم من التحرر العسكري؟
نحن نطرح هذه المقاربة بمعزلٍ عن رأينا السياسي بدول كفرنسا وألمانيا بل نتحدث عن فكرة أن نهوض الأمم ليس ضرباً من الخيال، هي فقط تحتاج للإرادة الواعية والأهم تحتاج إلى تفعيلِ كل أشكال الانفتاح بين الدول العربية بما فيها المصالحات، تحديداً أن ما نمتلكه من قيمة مضافة كشعوبٍ عربية أن الشعوب لا تحقد على بعضها بعضاً فالخلاف سياسي، على هذا الأساس علينا النظر بعين الاهتمام بكل ما يمكنه تحقيق هذا الالتقاء بما فيه قمة جدة وما قد يتفرع أو ينتج عنها لأننا عندما نتجاهل الأهمية السياسية والشعبية لانعقاد هكذا قمم، فإننا أشبهَ بمن يُعيدُ اجترارَ اليأس، إما لأنه جاهل بالجغرافيا والتاريخ، وهما أهم صفتين يجب أن يتمتع بهما من يتعاطى بالشأن السياسي أو لأنه كما كثر في هذا العالم يرفعون شعار سنسقطه كما أسقطنا غيره: ممنوع على هذه الأمة أن تنهض.. لكن نعدكم أنها ستنهض!
ثانياً: الظروف الإقليمية والدولية
لو تابعنا تواترَ الاجتماعات في القمم العربية منذ لوثةِ الربيع العربي حتى اليوم، لاكتشفنا الكثير من التغيرات التي أحدثتها قمة جدة، نبدأ من تغير العقلية بتغير القيادات لأغلبية الدول العربية إن كان لجهةِ العمر، أم لجهةِ دعمهم لمشاريعَ تتعارض مع المصالح العربية كالرئيس المصري السابق محمود مرسي والرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي اللذين شكلا الذراع الطولى لتنظيم الإخوان المجرمين والعثمانية القميئة.
بالسياق ذاته فإن ما أكسبَ هذه القمة قيمتها المضافة أن المملكة العربية السعودية استبقتها بجهودٍ كبيرة لخنقِ التوترات في المنطقة، هذا التعاطي السعودي لم يكن تعاطياً مرحلياً بهدفِ تمرير انعقاد القمة كما كان يحدث سابقاً، بل هو نهج أرادته ليكونَ حجر أساسٍ لمرحلةِ ما بعد القمة، تحديداً أن المملكة ستترأس القمة عاماً كاملاً تريد من خلالهِ تحقيق انجازاتٍ مهمة، فدعوة سورية جاءت بهذا السياق لكنها دعوة آلمت الكثيرين فادَّعوا أن الدعوة كانت بشروط، هنا لابد من التوضيح بأن المملكة أو رئاسة الجامعة لم تفرض أي شروط على الحضور السوري، أما إن كان البعض يقصد بمرتكزات الحل السياسي وعودة النازحين فهي مطالب سورية قبل أن تسمى شروطاً، هل قالت القيادة السورية يوماً إنها ليست مع الحل السياسي؟!
أما الملف الأهم الذي كان ينعكس سلبياً وبشكلٍ دائم على باقي الملفات في القمم العربية والمتمثل بالخلاف الإيراني- السعودي فهو كذلك الأمر قيد الاضمحلال تحديداً بعدَ القرارات المهمة والشجاعة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية والتي كانت أساساً في نزعِ فتيل هكذا صراع، ولو وسعنا الدائرة أكثر سنجد بأن المحيط الدولي يشهد الكثير من التقلبات من بينها مرحلة الوهن الأميركي وعدم القدرة على إدارة الأمور بالطريقة ذاتها التي جاءت بهم إلى المنطقة، لكن هناك من لايزال يراهن على فكرةِ أن الولايات المتحدة قدَر، هؤلاء رأوا مثلاً بأن دعوةَ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي لإلقاءِ كلمة في القمة جاءت بضغط أميركي، مقاربة قالت نصف الحقيقة ولماذا لا نقول إن دعوته جاءت لتنطلق من هذا الشرق كوساطة لإنهاء الحرب؟! الجميع اليوم يبحث عن إنهاء الحرب الأوروبي قبل الروسي، الصيني قبل الأميركي، حتى أقرب حلفاء الروس لا يخفون انطلاقَ وساطاتهم لإنهاء الحرب فلماذا نكتفي بتقييمِ أي حدث عبر وجهة نظر واحدة؟
ختاماً، فإن مراجعة كلمات القادة الفاعلين على الساحة السياسية في الوطن العربي سنجد بأن هناك نقاطَ التقاء وتقاطع في الكثير من المفاهيم، فالرئيس بشار الأسد طرح فكرة توصيف الأخطار إن كان لجهة العثمانية القميئة وذراعها الإخوانية أم لجهة الكيان الصهيوني، وهنا لم يقدم أحد من الحضور ما يخالف هذه الفكرة، تحديداً أن دولاً عزيزة كمصر والإمارات وتونس والجزائر اكتوت كما سورية، بنيران الإخوان المجرمين، بالسياق ذاته طرح الأمير محمد بن سلمان فكرة الرغبة بخلق فرص للتنمية التي تحتاج إلى السلام بين الشعوب وهو كلام لا غبار عليهِ، لكن كل هذه الطموحات التي يجب أن تبدأ من الإطار المؤسساتي الجامع المسمى الجامعة العربية لن يكون لها معنى ما لم يبدأ بإصلاح الجامعة نفسها، عندما نتحدث عن إصلاح فهو ليس بالمصطلح المسيء لهذه الجامعة، نحن نتحدث مثلاً عن الإصلاح في سورية فهل نحن نسيء لبلدنا؟ لكن لإيماننا بأن الجامعة العربية قادرة أن تسير بالتوازي مع الكثير من المنظمات العالمية فإن فكرةَ الإصلاح على أسس التمسك بهويتنا والسلام والتنمية تبدو فعلياً قابلة للتحقق، تحديداً أن الدول العربية تمتلك الكثير من الطاقات البشرية القادرة على إنجاز هكذا مشاريع، مع التأكيد على الاستفادة الكاملة من نهوض هذا الشرق والتراجع الدولي لباقي الأقطاب.
دائماً علينا التمسك بالأمل، تحديداً إن كنا نضع الثقة بحراسه، ما يجري اليوم رغم كل ما عشناه، يبدو وكأنَّ هذه الأمة بدأت تتلمس طريقها نحو الخلاص، هل هذا ممكن؟ لا مستحيل مع الإرادة، فقط انظروا أينَ كانت الجمهورية العربية السورية قبل العام 2014 وأين أصبحت اليوم؟!