لماذا لم تنهض اللغة العربية رغم كل الدعوات؟ … بعد أن كانت القرارات المتعلقة باللغة محترمة لم تعد على تواصل مع المجتمع
| إسماعيل مروة
واقع اللغة العربية اليوم ليس في الحال المثالي، أو ليس في الحال الذي تستحقه بين اللغات الحية، وذلك في عدة نقاط تتمحور حول حماتها وسدنتها، وتعليمها، وتقريبها من الحياة، وأبنائها الذين عزفوا عنها، وهم في كثير من الأحيان يملكون الحق كله في هذا النفور بسبب معلمين أو مؤسسات أو وعظ وإرشاد! فمن حيث الحماة والسدنة للغة، فقد ابتليت العربية بأبناء ممن يطلق عليهم صفات العلماء، لا يميزون بين التحنيط والتطور، بل إن بعض الذين أوكلت إليهم مهام اللغة وحمايتها وتقديمها تعاملوا معها تعامل الوصاية والمصلحة، واستأثروا بكل شيء حفاظاً على مصالحهم ومكتسباتهم، ووقفوا عند قضايا في اللغة وإملائها هي من نافل القول، وحوّلوا الاهتمام من الجوهر إلى القشور، فهم يتحدثون عن الهمزة ودخول الباء على المتروك، وقد يستهلكون الورق لمراسلات من أجل همزة، في الوقت الذي يخالفون فيه المعجم وقواعده، ويضحّون بالرحلة المعجمية واللغوية العربية التي زادت على ثلاثة عشر قرناً، ولا يرون ضيراً في أن تصبح المؤلفات اللغوية والمعجمية على نهج اللغات الأجنبية، بل إن كتباً عديدة فصّلت النحو العربي في جداول وأسهم كما في الماضي والماضي البسيط والحاضر، ورأى أصحابها أنهم قدموا كشفاً في ميدان تسهيل اللغة وتيسيرها، وربما لو استطاع واحدنا أن يدخل في ردهات المؤسسات اللغوية التي أنيطت بها مهام حماية اللغة، فإنه لن يجد، إلا ما ندر، من يملك مُسكة من اللغة، بل ربما لم يجد من اللغويين من يملك القدرة على أن يفعل شيئاً ما..!
مصطلحات الزراعة
منذ تأسيس مجمع دمشق العلمي على يدي رئيسه العالم الجليل محمد كرد علي وإلى اليوم مسيرة طويلة من الرحلة اللغوية، ومجامع لغوية كثيرة ولدت، سواء للضرورة أم للغيرة والمبارزة، ولكن هذه المؤسسات خلا مراحل قصيرة لم تقدم شيئاً، وأعلى ما قدمه مجمع دمشق المعاجم الزراعية التي استنبطها الأمير مصطفى الشهابي، والتي ما تزال رائدة إلى اليوم، وقد طُلبت مني نسخ منها من خبراء خارج سورية لأنها جديرة وكانت فتحاً في اللغة والزراعة، أما ما قام به كثيرون، مع تقديرنا، من تفريغ المعاجم الأمهات في كتب مفردة، فلا يعدو أن يكون تفريغاً موصوفاً من كتب الأمهات غايته زيادة كتاب، والحصول على مكافأته المادية.. وقد أسهم المجمع العلمي بدمشق في نشر التراث العربي في مراحله المتعددة علماً بأن مجمع دمشق حاول أن ينهض بنشر تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر منذ أمد بعيد وكان المشروع يتعثر وأعضاء اللجان يرحلون والمشروع إلى اليوم لم ينجز على الرغم من الرغبة في أن ينشر عندما كانت دمشق عاصمة للثقافة العربية.
مجمع القاهرة والمعجم
مجمع القاهرة نشر المقررات وغيرها، وكان إنجازه الذي يذكر «المعجم الوسيط» وهو البادرة المعجمية الوحيدة التي رأت النور أمام «المنجد» وغيره من معجمات الجهود الفردية، ومع الملاحظات الوثيقة التي وضعها الخبراء على المعجم، إلا أنه كان نقطة نور يتيمة، وما يزال المعجميون يمنّون القارئ والعربية بسلسلة من المعاجم.
المعجم المدرسي المظلوم
حين كنت أعمل بإشراف الأستاذ المجمعي مروان البواب في مجموعة اللغة العربية، ذكرت أمامه «المعجم المدرسي» بشيء من عدم التقدير، فاعتدل في جلسته وحاورني وقتاً طويلاً حول المعجم، وفي اليوم التالي أهداني نسخة منه، وكلفني العمل به وموازنته مع الوسيط، ليتبين لي أن المعجم المدرسي الصادر عن وزارة التربية السورية للأستاذ أبو حرب هو عمل جليل، عليه ملاحظات، وقد استفاد من الوسيط، ولكنه تلافى ما على الوسيط من مآخذ، وجعلني أقدّم هذا المعجم حين كان متوفراً لكل عزيز أريد أن أهديه شيئاً ذا قيمة، واليوم انتهت طبعات المعجم المدرسي، ويفضل أن يقدم له الدعم والرعاية ليصدر من جديد لأنه علامة مضيئة في وزارة التربية السورية.. فهل يصبح المعجم ذكرى كما معاجم الزراعة للشهابي؟ ولماذا لم يأت من يتابع ويطور ويحدث ويرفد؟
وفي ميدان التعريب للعلوم كانت جامعة دمشق رائدة، وما تزال تجربتها مهمة وذات قيمة، مع أن هذه الأهمية بدأت تضمر لغياب الدعم والقرار، ولغياب الأساطين من العلماء والغيورين، وتحولنا نحن إلى التغني بتجربة التعريب حتى شرخنا الأسطوانة الجميلة، وحوّلناها إلى لا شيء، وكل دعوات التعريب في المشرق والمغرب باءت بالإخفاق، ولم يتفقوا على مصطلح «اللسانيات، الألسنية، الألسن، علم اللسان..» وبين مغاربي ومشرقي وجدنا من يعود لاستخدام المصطلح الأجنبي بقلب جسور!!
التعريب والخلاف
لن نتحدث عن تجارب التعريب المريرة التي تستدعي الشفقة، ويكفي أن نسأل: من الخياط إلى الكواكبي وسبح والمنجي الصيادي وآخرين ما النتيجة التي وصلتنا من التعريب؟ أظن أن الفكر الجهبذي سيرى في التعريب وضع الأجنبي، ووضع ما تيسر من العربي..!
سينتفض بعضهم ويقول: بل عملنا.. والجواب: لكم الشكر، «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون» الغرف المغلقة لا تصنع نهضة، والتعامل مع اللغة مستحاثة بشرية سيزيدها متحفية.!
قال لي د. عبد السلام العجيلي: ما الضير أن تضاف إلى المعجم العربي استخداماتنا من نجيب محفوظ إلى نزار قباني وأنا؟ وأضاف بحسرة: أم إننا لا نتحدث العربية ونكتب بها؟ أم إن زماننا لا يحق له أن يترك بصمة؟
لو عدنا إلى مجمل التجارب، وبالتجاوز عن الملاحظات، فإننا سنجدها فردية من القرن التاسع عشر حين كان البستاني مؤسسة وحده وأنجز «محيط المحيط»، إلى «المنجد» وما أداه من أدوار في حياة أجيال من الطلبة، وكذلك «متن اللغة» لأحمد رضا، وهو جهد تعجز عنه مؤسسات، وإذا ما أضفنا جهوده في دراسة العامية ومقارنتها للفصحى فإننا سنخجل مما وصلنا إليه، وأذكر سلسلة المعاجم التي أصدرها أستاذي الجليل الراحل أحمد أبو حاقَّة بالتعاون مع دار النفائس «معجم النفائس» الكبير و«معجم النفائس الوسيط» فإننا سندرك ما فعله أفراد في الظل، لا توجد مؤسسات تمولهم وتعطيهم المكاتب والمكافآت.
اللغة العربية تحيا بمجهودها الفردي وما فيها من مقدس تكفل بحفظها، بل لها الفضل في أن جعلت كل أبنائها والمتخصصين يحيون بفضلها وخيرها العميم، مع أنهم ومنذ القرون الأولى لم يقدموا شيئاً لها ولخدمتها.
قرن ونيف والصراخ العبثي يستمر، وبقاء لغتنا تستمده من ذاتها، ولا تستمده من جهود أبنائها الذين لا يعرفون قدرها!.