تسارعت الأحداث في المنطقة منذ زلزال الـ 6 من شباط الذي ضرب تركيا وجزءاً من سورية ليتلوه بعد نحو شهر أو يزيد توقيع الاتفاق السعودي- الإيراني برعاية صينية، وكلا الحدثين كانا قد فتحا أبواباً كان الظن أنه من الصعب لها أن تنفتح، أو أن فعل من هذا النوع لم يحن بعد، ومع اقتراب موعد انعقاد القمة العربية راحت التصريحات، والمواقف، تكتسب لوناً وشكلاً مختلفين، في طبيعتهما، عن تلك التي سادت على مدى نحو عقد أو يزيد، حيث سيشكل «لقاء عمان» الوزاري مطلع شهر أيار الجاري «مجهراً» كاشفاً لكل ما تراكم بين هذا التاريخ الأخير رجوعا نحو زلزال شباط آنف الذكر.
في الغضون، أي بعد أن تأكد في «لقاء عمان» مشاركة سورية بالقمة المقبلة، انخرطت الولايات المتحدة، ومعها نصيرها الاتحاد الأوروبي، في مسار بدا أنهما ترميان من خلاله لفائدة مزدوجة يمثل الضغط ضلعها الأول أما ضلعها الثاني فيمثله فعل التشويش الذي أريد من خلاله أن تصبح «الأضواء» خافتة تكاد لا تكفي لمراقبة ما يجري على أهميته، فعلى عجل، تبدو سرعته اللافتة دالة على مراميه، أقرت «لجنة العلاقات الخارجية» في مجلس النواب الأميركي يوم الثلاثاء الماضي مشروع قانون «مكافحة التطبيع مع النظام السوري» الذي يمنع الإدارات الأميركية من «استئناف علاقاتها مع دمشق في ظل وجود الحكومة الحالية»، إضافة لاحتوائه على بند يتضمن توسيع «عقوبات قيصر» وتمديدها لثماني سنوات تنتهي في العام 2032، وعلى الرغم من أن مسيرة «القانون» لا تزال طويلة قبيل أن يصبح نافذاً إلا أن طرحه، والموافقة عليه، بهذه السرعة كان فعلاً يراد له أن يدفع بـ«العديدين» لمراجعة حساباتهم، أو التخفيف من اندفاعاتهم تجاه عاصمة الأمويين، مع لحظ أن الذهاب الأميركي لوضع العالم في معسكرين لا ثالث لهما، الأول يضم من «معها»، والثاني يضم الواقفين ضدها، هذا الذهاب يبدو سيفاً ذا حدين في ظل التفلت الذي راحت تبديه العديد من الدول ما بعد الحرب الأوكرانية، ولعل الأبرز منه، إقليمياً هو تصويت المملكة العربية السعودية في «أوبك بلس» شهر تشرين أول الماضي الذي شكل منعطفاً هاماً في ذلك المسار، ومنها أيضاً السياسات التي راحت أبو ظبي تنتهجها في المنطقة، وهي في مجملها تكاد تكون مدعاة لإثارة واشنطن واستفزازها، أما الأوروبيون فذهبوا إلى تنظيم لقاء في جنيف يوم الإثنين الماضي جمع بين أعضاء في «هيئة التفاوض العليا» ومندوبين عن اتحادهم إضافة للولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا، والهدف منه يشير إليه العنوان الذي اختاره المنظمون: «المساءلة في سورية».
لم يستطع «التشويش الأميركي- الغربي، آنف الذكر، على قمة جدة تحقيق الكثير، بل يمكن الجزم أن تلك القمة استطاعت جسر الهوة القائمة في ما بين دول المنطقة من جهة، وكذا نظيرتها القائمة ما بين هذه الأخيرة وبين جوارها من جهة أخرى، الأمر الذي يمكن رصده من خلال البيان الذي اتفق على تسميته بـ«إعلان جدة»، ومن المؤكد أن هذا الأخير نجح في تشخيص الأسباب التي قادت، من حيث النتيجة، إلى كل هذا الخراب والدمار اللذين طالا العديد من دول المنطقة، ومعهما تفكك منظومتي العمل العربي المشترك والنظام الإقليمي العربي، وعليه فقد كانت بنوده الأبرز قد ركزت على معالجة «البؤر» المضطربة بدءاً بالأراضي المحتلة ومروراً بسورية والسودان واليمن ثم وصولاً إلى لبنان، لكن الأهم مما ورد فيه هو تشديده على «أهمية العمل العربي المشترك المبني على الأسس والقيم والمصالح المشتركة والمصير الواحد» ثم التشديد على «توحيد الكلمة والعمل على صون الأمن والاستقرار في المنطقة العربية».
هنا، يمكن القول إن «إعلان جدة 20 أيار 2023» هو أشبه بـ«ويستفاليا» إقليمية وإن كانت غير مكتملة الملامح، فالمعاهدة سابقة الذكر كانت قد وضعت بطبعتها الأوروبية الموقعة شهر تشرين أول 1648، أسس قيام الدولة الحديثة في أوروبا، ولربما العالم، حيث قاد الصراع الذي اندلع مطلع القرن السابع عشر واستمر على مدى ثلاثين عاماً، اتخذ من خلالها العديد من الأشكال الدينية والمذهبية والعرقية، إلى خلاصات كانت شديدة الأهمية، والأبرز منها هو تحديد الشروط الأساسية لعلاقات الدول فيما بين بعضها بعضاً، والتي يجب أن تقوم على مبدأ أساسي يقول بـ«عدم جواز التدخل في شؤون الآخرين أيا يكن نوعها»، على أن تصبح تلك الشروط هي القاعدة في رسم السياسات المستقبلية لدول القارة مجتمعة، وبهذا استطاعت تلك المعاهدة تنظيم الحياة السياسية الأوروبية لفترة طويلة استمرت لأكثر من خمسة قرون كانت القارة على امتدادها محور التحولات العالمية الكبرى، ولربما لم تفتقد ذلك الدور، أو جزءاً منه على الأقل، حتى بعد ظهور نظام القطبية الثنائي الذي حكم العالم ما بين 1945 – 1989، بل وفي ظل الانفراد الأميركي بالهيمنة العالمية ما بعد هذا التاريخ الأخير.
بشكل ما تمثل المقاربة العربية الراهنة لشؤون المنطقة الملحة ملامح «ويستفالية» غير مكتملة، وتلك لوحدها تمثل خطوة كبرى على طريق استقرار المنطقة، فمصائرنا، وأمننا واستقرار دولنا ونهوضها، مرتهنة ببعضها بعضاً لاعتبارات عديدة، وأن نضع أقدامنا على ذلك المسار أمر يؤكد إمكانية أن تكون هناك خطوات أخرى عليه وصولاً لـ«الاكتمالية» آنفة الذكر التي إن وصلناها نكون قد قطعنا شوطاً لا يستهان به على طريق الاستقرار، إذ لطالما كان التدخل الخارجي بحاجة على الدوام إلى منافذ تعبرها رياحه لكي تتمكن هذي الأخيرة من العبث بمقتنيات البيت التي غالباً ما كانت بحاجة لـ«الصيانة» أو لـ«إعادة التأهيل».