الإبداع الفني شاهد على حضارة سورية متجذرة في التاريخ … التجسيدات الأسطورية المصورة في لوحات الفسيفساء .. الرسوم والصور أهم عناصر التوثيق التاريخي للهوية الوطنية
| نيرمين البيطار
ضمن إصدارات وزارة الثقافة _الهيئة العامة للكتاب _ لعام 2023 صدر كتاب بعنوان: (من أنطاكية إلى فيليبوبوليس _ التجسيدات الأسطورية المصورة في لوحات الفسيفساء) للباحث محمد ماهر الجباعي في 394 صفحة، يقدم الكتاب دراسة جديدة باللغة بالعربية لمجموعة لوحات فسيفساء فيليبوبوليس التي تعود للعصر الروماني ومقارنتها مع مثيلاتها في أنطاكية والتي تعد المجموعة الأكمل والأمثل في المشرق.
يتناول الكتاب دراسة فن الفسيفساء كأحد أهم فنون التصوير التي خلدت عمل الإنسان في الفترة الرومانية والأساطير التي تروي قصص الآلهة والخلق الأول وتضحيات الأبطال والتي عكست مدى العمق الفكري والثقافي والذوق الفني للفنان السوري في ذلك العصر. تضمنت هذه الدراسة ملحقاً للصور ووسائل الإيضاح أخذها الكاتب في أثناء زيارته وجولاته الميدانية لمواقع والمتاحف خلال عمله في حقل الآثار.
وتعد هذه الرسوم والصور من أهم عناصر التوثيق التاريخي لتعزيز جوانب فنية وإبداعية تحظى بها منطقتنا العربية والأرض السورية على وجه الخصوص.
ظاهرة متفوقة
بداية تعتبر مجموعة فسيفساء فيليبوبوليس ولاسيما تلك التي عثر عليها بالقرب من الحمامات الكبرى للمدينة والتي أسفرت عن اكتشاف دار فخمة تتكون من 28 غرفة غطت أرضيات بعض منها لوحات فسيفسائية ذات مواضيع وزخارف متنوعة، تعد إحدى بصمات فن الفسيفساء ومن المجموعات الأكثر أهمية في سورية والمشرق من خلال أصالتها وتعدد المواضيع التي عالجتها والمهارة العالية في التنفيذ والتي تحمل معظمها موضوعات ذات المضمون الأسطوري الإغريقي _ الروماني والتي ساهمت برسم صورة حقيقية لجمال هذا الفن ممثلة بالعناصر الفنية كافة والتعبير الخيالي والنوعية غير المألوفة في تنفيذ تصميمات مخططات تلك اللوحات وتشكيلاتها الفنية المختلفة الإنسانية والحيوانية والهندسية والنباتية كما أنها تعتبر فريدة من حيث النوعية والقيمة الفنية التي قدمتها وفرادتها في الجوانب التاريخية والفنية وخاصة بما حوته من مخططات أولية للوحات، وتشير إلى العلاقة الوطيدة بين الأسطورة والفن، وجاءت اللوحات لتعبر عن الأبعاد الفكرية للمرحلة.
التمثيلات الأسطورية
من مجموعة الفسيفساء الموجودة في شهبا ومن بين اللوحات التي اكتشفتها 1963 بعثة وطنية من المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية في الدارة الرومانية نجد لوحة رائعة التصميم تمثل آلهة البحر تيثس، إذ صور الفنان الموضوع وسط الارضية بأبعاد (264×267) على خلفية ذات مكعبات بيضاء فنرى ضمن لوحة مركزية بأبعاد (118× 165) صورة نصفية لآلهة البحر أدارت رأسها بشكل خفيف نحو كتفها الأيمن بنظرة غامضة كأعماق البحر، وشعرها الكثيف ذو ضفائر غزيرة تشبه الطحالب البحرية التي امتزجت مع أنواع الأسماك الكثيرة لتبدو كالأمواج فوق كتفيها ونرى في أعلى جبهتها جناحين صغيرين بمكعبات ذات ألوان بين الرمادي والأسود وفي وسطهما نجمة بحر نفذت بمكعبات صفراء داكنة، في حين التفَّ حول عنقها كالقلادة رمزها المعروف التنين البحري برأس كلب يبدو إلى يمين رأسها يرمز إلى الأعماق البحرية وأسند مجدافها المميز الذي يعد أيضاً أحد رموزها إلى كتفها الأيسر.
ومن الناحية الأسطورية تيثس هي إحدى آلهة الجيل القديم من آلهة اليونان، ابنة إله السماء أورانوس وغايا إلهة الأرض، وأخت أوقيانوس إله المحيطات وزوجته وأم لعدد كبير من آلهة الينابيع والأنهار وحوريات البحر، وهن حسب تقدير هزيود ثلاثة آلاف حورية، وعرفت أيضاً لدى الإغريق باسم تالاسا أي المرضعة، لأنها كانت ترمز إلى قوة الماء الخصبة وتمد الطبيعة بالرطوبة والري.
وإضافة إلى الجانب الفني والتاريخي، تعدّ هذه اللوحات غاية في القيمة لفهم أبعاد المنطقة الميثولوجية والعقيدية، وخاصة مع مقارنة هذه المرحلة، وما فيها مع المفهوم الأسطوري عند الإغريق الذي يماثل الى درجة كبيرة ما أبرزته اللوحات الفسيفسائية التي يعرض لها الكتاب.
يعدّ هذا الكتاب وثيقة تاريخية مهمة تمثل دليلاً تاريخياً وفنياً وسياحياً لحقبة من حقب التاريخ السوري بما يعبر عن تقدم في مجال الفن والفكر والعقيدة ورموز الآلهة تدل بما لا يقبل الشك على عمق بحث السوري القديم في الكون وطبيعته.