قضايا وآراء

كباش «أردوغاني – أتاتوركي»

| عبد المنعم علي عيسى

أظهرت النتائج التي أفضت إليها جولة الانتخابات التركية الأولى يوم 14 أيار الجاري، أن خطاب المعارضة التركية لم يكن واقعياً بدرجة كافية تجعل منه قادراً على جذب ميول الشارع وأهوائه، وتثبت أيضاً أن ذلك الخطاب استند إلى فعل التجييش ومحاولة استمالة هذا الأخير بعيداً عن معطيات تعمد تهميشها أملاً في كسب شريحة «الرماديين» التي كانت واسعة كما يبدو، ولربما ظهر ذلك بوضوح في أن آخر استطلاعات الرأي التي أجريت قبيل 14 أيار كانت تشير إلى تراجع شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدرجة غير مسبوقة منذ إمساكه بعصا السلطة قبل نحو عشرين عاماً، لكن الاستطلاعات كثيراً ما تخطئ قياساً إلى عوامل عدة أبرزها أن هؤلاء، أي الرماديين، غالباً ما يتقلب قرارهم بشكل لحظي أو بمعنى آخر قد يؤثر أي حدث ولو كان هامشياً في ذلك القرار الأمر الذي أجاد الرئيس التركي الاستثمار فيه الآن بل وفي كل انتخاباته السابقة التي لم تكن كفته فيها تعاني من مقاومة الكفة الأخرى الساعية نحو رجحانها على الأولى.

اللاواقعية في خطاب المعارضة بدت صارخة بنتيجة أفادت أن 300 ألف صوت فقط هي التي فصلت ما بين أردوغان وبين فوزه بالانتخابات في مرحلتها الأولى، فالأخير حصد 49. 4 بالمئة من أصوات المقترعين الذين بلغت نسبتهم 88 بالمئة ممن يحق لهم الاقتراع، وكلا النسبتين لهما مدلولات عديدة من شأنها أن تطيح برهان، يبدو أنه لا يزال قائماً لدى المعارضة، وهو يقوم على خلاصة تفيد بأن فرصة الفوز لا تزال قائمة، فعلى الرغم من أن «المشادة» التي شهدتها جولة الانتخابات الأولى كانت مختلفة في طبيعتها عن نظيراتها اللواتي سبقنها من نوع أن هذه الأخيرة كانت هي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية التركية التي لم تحسم نتيجتها من الجولة الأولى، إلا أن كثيراً من المعطيات تشير إلى أن الجولة المقبلة سوف تشهد حسماً قد تشير نتائجه إلى أن ما جرى، أي عدم الحسم في جولة 14 أيار، كان بفعل أخطاء تكتيكية محضة، وأنه لا يعبر عن انفضاض شرائح وازنة عن حكم حزب «العدالة والتنمية» القائم راهناً.

أولى مؤشرات الحسم، المرجح، آنف الذكر هو أن مرشح المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو سيكون بحاجة إلى تحصيل إضافي يصل إلى عشرة أضعاف ما يحتاجه أردوغان الذي يحتاج لـ300 ألف صوت في حين سيحتاج كيليتشدار أوغلو لمليونين ونصف المليون صوت، وتلك نسبة من الصعب تحقيقها خصوصاً أن المرشح سنان أوغان، الذي حصل على 5.2 بالمئة، ذهب على الأرجح للوقوف في صف أردوغان قياساً للتناقض ما بينه، أي بين أوغان، وبين كيليتشدار أوغلو على خلفية الموقف من حزب «اليسار الأخضر» الكردي الذي أعطى الأخير ما لا يقل عن 10 بالمئة من الأصوات التي جمعها، وثاني تلك المؤشرات، أن أردوغان ينتقل إلى الجولة الثانية وفي جيبه انتصار، وإن كان انتصاراً منقوصاً، فحزبه تمترس عند 322 نائباً من أصل 600 هم أعضاء البرلمان التركي، وإذا ما كانت الحالة السابقة لا تتيح، للحزب ولأردوغان، الإطباق على السلطة التشريعية، الفعل الذي يصبح لازماً لرسم طبيعة التحولات وإجراء التعديلات القادرة على ترسيخها، إلا أنها تكرس أغلبية تزداد أهميتها في ظل كباش ما بين قوى تتصارع على الهوية حتى ليبدو الصراع الآن ما بين «الأردوغانية»، التي تمثل مزيجاً ما بين «الإسلامية» و«العثمانية»، وبين «الأتاتوركية» التي تغوص في الذات الجمعية للأتراك كرمز للعلمانية، أما ثالث المؤشرات فيمكن رصده من خلال التهتك الحاصل في نسيج المعارضة التي تضم مكونات كثيراً ما تتناقض في كل شيء، في حين يمثل «هدفها» الذي تسعى إليه اللاصق الوحيد تقريباً فيما بينها، ومن المتوقع، خلال فترة الأسبوعين الفاصلة ما بين الجولتين، أن تزداد حالة الإحباط لدى جمهور المعارضة الذي أيقن، بعد تكشف نتائج الجولة الأولى، أن الخطاب الذي استخدمته قياداته قبيل هذه الأخيرة كان يحمل الكثير من المبالغة.

إضافة إلى ما سبق تبدو هناك العديد من المؤشرات الإقليمية والدولية التي تصب في مصلحة أردوغان الساعي لترسيخ زعامته في الذات الجماعية التركية بدرجة تفوق تلك التي تختزنها هذه الأخيرة عن «أتاتورك»، فعلى الرغم من أن العديد من دول الإقليم ترى أن في أداء أردوغان السياسي الكثير مما يزعجها بل ويقض مضاجعها، لَكِنْ أولئك العديدون يرون أن استمرار أردوغان بالسلطة ما بعد هزيمة مشروعه التي يمكن رصدها من خلال مؤشرات عدة أبرزها اندفاعته نحو دمشق قبيل نحو عام، قد تكون مفيدة، ناهيك عن أن «خصماً» مجرباً هو أفضل من «خصم» يكاد أن يكون شبه مجهول.

كانت الفترة المديدة التي اعتلى أردوغان وحزبه فيها سدة السلطة في تركيا نتاجاً لمؤثرات الاقتصاد ونجاحاته، ولربما فوزه في الانتخابات الراهنة سيكون مؤشراً على أنه لم يفشل بعد في امتحانه الاقتصادي، لكن هناك ثمة عوامل أخرى لعبت دوراً بارزاً في ذلك البقاء منها نجاحه في تحجيم «الأتاتوركية» وقلعتها الأمضى التي يمثلها الجيش، الأمر الذي تحقق فعلاً بعد انقلاب تموز 2016 الفاشل الذي قاد من حيث النتيجة إلى «تطهير» الدولة العميقة التركية من «رواسب» الأتاتوركية المنغرسة فيها.

وإذا ما كان لنا أن نتنبأ عن أردوغان «الخامس» فيمكن القول: إن هذا الأخير استطاع منذ العام 2016 اللعب على التناقضات الدولية لتحقيق مكاسب له ولبلاده، لكن تجارب التاريخ تقول: إن مثل سياسات كهذه يمكن لها أن تنجح لمدة قصيرة، فيما عدا ذلك فإن أصحابها سيصبحون عرضة لدفع أثمان باهظة ولن يكون أردوغان استثناء في تلك القاعدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن